نقلة الجدل الهيجلي
شادي عمر الشربيني
◀ " ويعرف هيجل الجدل قائلا: نحن نطلق اسم الجدل على تلك الحركة العليا للعقل التي فيها تتحول كل المظاهر مطلقة الانفصال إلى بعضها، والتي فيها يتم تجاوز المسلمات (علم المنطق)، وبمجرد أن يعاود الجدل الارتباط على أساس وعي مجرد بحركة الفكر فإنه يكتسب معنى جديد أعلى مستوى، إنه يصبح آداة وفناً وعلمًا" (١)
إن هيجل يفسر الفكر تفسیرا ديناميا حركيا، يختلف عن تفسير ارسطو الثابت، وكيف يمكن للفيلسوف أن يصور هذه الدينامية المبثوثة من الفكر إلى الحياة إن لم يكن في إطار ميتافيزيقا عامة، هي أشبه بالفرض الذي يطلقه العلماء حين تحيرهم ظاهرة من الظواهر، بغية الكشف عن طبيعتها، والظاهرة المحيرة هنا هي الحياة الإنسانية، هي تاريخ البشرية، هي ذلك الصراع المحتدم الذي تنعكس نتائجه في أحداث الحياة وتقلباتها.
وتطور العالم لا يأتي عفوا، وإنما هو تعبير عن حركة عقلية، وتضم هذه الحركة في صميمها الفكر والوجود، فهي ذات وموضوع في آن واحد، ووظيفة العقل عند هيجل، تختلف عن تلك عند كل من دیکارت، وكانط ..
فالعقل عند دیکارت يجمع اليقينات التي بلغت من الوضوح والتميز أقصى حد، وعند كانط يشرع العقل للتجربة بمقولات أولية مطلقة ضرورية، وإذا كان كانط يغفل التجربة كما أغفلها دیکارت، فقد كان حريصا على أن يكون العقل الخالص هو المقنن لها.
أما هيجل فيقترب من النظرة البيولوجية التطورية، التي تتمثل الطاقة البشرية طاقة تطورية مستمدة من المادة، ومن ثم فليس هنالك تعارض في الطبيعة بين المادة وبين العقل، والاختلاف بينها في الرتبة، فالعقل اسمی شانا من المادة.
ويحرص هيجل على أن يبين لنا كيف أن الفكر قد انبث تباعا في التجربة البشرية كلها بحيث بدا الفكر في الحاضر خير معبر عن تشكل العالم تشكلا عقليا بفضل ما بذلته البشرية من جهود جبارة منذ فجر التاريخ، وتنحل الفكرة المطلقة التي يتمثل فيها التحام الواقع بالفكر حين يسلط العقل أضواءه على الواقع الذي يلوح في البداية غريبة عنه، ثم يتحقق الالتحام مرة أخرى بممارسة الجدل، فيستبعد العقل العناصر اللامعقولة من الواقع ويصوغه في صور عقلية، وينجم عن هذا أفكار متحددة أو تصورات، وهي ليست مجرد صور عقلية بعيدة عن الواقع نفسه، ففي التصور، على هذا، امتزاج بين العناصر المادية والعناصر الفكرية.
فالتصور على هذا رابطة ضرورية وواسطة عقد لا بد منها، بين الإنسان وبين العالم الخارجي، وتاريخ البشرية هو تاريخ الفكر، وحركة التاريخ هي حركة الفكر، وعلى ذلك فتفسير الواقع لا يكون إلا بالفكر المبثوث فيه، ومن هنا أهمية التاريخ لدى «هيجل»، ففي التاريخ يتم اتحاد الفكر بالواقع .
ويعتبر المنهج الجدلي نقلة كيفية في تاريخ الفكر البشري، تجلوز به هيجل المنهج الارسطي، واستخدم الجدل بطريقة متسقة وبصورة شاملة لكل جوانب الحياة وقوانينها. وهي بلا شك مأثرة عظيمة لهيجل، بل هو الجانب الايجابي في فلسفته، وإن كان جدلاً مثاليا، يقوم على وحدة الفكر والوجود، ويطابق بين قوانين الطبيعة وقوانين الفكر. إن الجدل الهيجلي إبداع فلسفي، أتت مقدماته من هيراقليطس وكانط وفشته وشلينج، ثم توجه هيجل مقدما للبشرية منطقا جدليا التفت فيه إلى جدل العقل عند كانط، متجاوزا ثنائية الظواهر والشيء في ذاته، آخذا على فشته أن يكون المطلق أحد طرفي التضاد، إذ ليس الأنا هو الذي يحدث اللا أنا، معترضا على شلينج لقوله بالأصل المشترك للأنا واللا أنا.
ويكشف هيجل عن جوهر مساهمة كانط في مجال الجدل، خاصة في قوله التناقض ينتمي إلى طبيعة فكرة محددة، ولكن كانط باقترابه من مبدأ الجدل هذا لم يتوصل منه إلى الاستنتاج القائل، مادام التناقض يتولد بالضرورة من فاعلية العقل، فالعقل إذا لا يمكن أن يدرك الاشياء بذاتها، وهو ملزم بأن يكتفي بالظواهر. "إن المنظور الجدلي الذي رسمه كانط في بداية التطور التاريخي للفلسفة الكلاسيكية الالمانية، هو جنين لم يكتمل بعد وقد أعتبر - كانط- فهمه السلبي نظرية له. وهو صوري في كثير من الاحيان، ولم يتوج كشف التناقضات الداخلية عادة بالتركيب الجدلي الذي يعتبر بمثابة حركة فعلية إلى الأمام، ذلك لأن الثنائية المحتمة للأشياء بذاتها والظواهر، والطبيعة والحرية، والواقع والواجب، تحط كثيرا من قدر النتائج الحاصلة. إن جدل كانط هو استفسار وطرح عميق وان لم يدركه هذا المفكر ذاته، إنه كما يقول أنجلز نقطة أنطلاق لمجمل التحرك اللاحق إلى الأمام "(٢).
وقد عمد هيجل إلى فض الثنائية الكانطية، وانهاء النزاع بين طرفيها، أي الظواهر والشيء في ذاته، وعمل هيجل إلى حل هذه الإشكالية أو هذا التناقض العقلي عند كانط انطلاقا من تحديد العلاقة بين الظاهرة والشيء في ذاته، أو بين الفكر والواقع، لأن في تحديد العلاقة (على حد تعبير هنري لوفيفر في كتابه المنطق الجدلي) يتحدد هدف الجدل الهيجلي - أو منهج المذهب الهيجلي.
(١) هنري لوفيفر، المنطق الجدلي، ص ١٢.
(٢) أ. بوغومولوف وآخرون، تاريخ الديالكتيك الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ص ١٠٠.
الثلاثاء، 14 سبتمبر 2021
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق