الصفحات

الأربعاء، 22 سبتمبر 2021

التنكيل بالعمال.. حصاد الخصخصة

 

التنكيل بالعمال.. حصاد الخصخصة

  شادي عمر الشربيني



في شركة يونيفرسال للأجهزة المنزلية،  تلك الشركة التي رأينا اعلاناتها التليفزيونية كثيرا وخاصة في رمضان، واصل نحو ألفين من عمالها إضرابهم عن العمل لليوم الثالث على التوالي، في المنطقة الصناعية الثانية في مدينة السادس من أكتوبر، بعد فشل المفاوضات بين ممثلين عن العمال ورئيس مجلس الإدارة بوساطة من ممثلين عن وزارة القوى العاملة.  سبب إضراب العمال تأخر صرف أجورهم لأكثر من شهرين، لكن رئيس مجلس الإدارة، يسري قطب، عرض خلال المفاوضات، صرف نصف أجر شهر واحد مقابل فض الإضراب والتفاوض لاحقًا على جدول زمني لصرف بقية المستحقات، وهو ما رفضه العمال.

  هذا الإضراب يفتح أعيننا على الاوضاع المزرية للعمال، أزمة الأجور في الشركة بدأت عام 2019 بتأخير صرف المرتبات، وهو ما أفضى إلى إضراب وقتها في الشركة تدخلت على إثره وزارة القوى العاملة ووافقت على صرف نصف المرتبات من خزينتها لمدة ستة أشهر، وبعدها بدأ صرف الرواتب على دفعتين لمدة ثلاثة أشهر، ثم تأخير المرتبات بحيث لا يتقاضى كل العمال أجورهم في وقت واحد، وقَبِل العمال بهذا الوضع مقابل الحصول على المرتب نفسه دفعة واحدة، لكن الوضع لم يدم على هذا الحال، وبدأت الإدارة في صرف مرتب العامل الواحد دفعات، وصلت في بعض الأحيان إلى ست دفعات، إلى أن بدأ انقطاع المرتب تمامًا من يوليو الماضي وإلى الآن، حسبما قال عدد من عمال الشركة لـ موقع «مدى مصر» الاخباري. والملفت للنظر أن رئيس مجلس الإدارة، قد سبق وقال في تصريحات صحفية العام الماضي، إنه لا ينوي تخفيض أجور العمال على خلفية تداعيات أزمة كورونا بل ينوي زيادتها، «لكن العكس هو ما حدث في واقع الأمر» كما يقول أحد العمال، مضيفًا «المرتبات خُفضت للنصف لمدة أربعة أشهر، هي تلك الأشهر التي توقف فيها العمل بداية من أبريل من العام الماضي وحتى أغسطس من نفس العام».

  عامل آخر، قال إن عدم انتظام صرف الأجور وصل إلى حد أنه لم يتقاضَ أي أجر منذ ما يقرب من شهرين حتى الآن، مضيفًا «أعمل في الشركة منذ 17 سنة ولا يتجاوز أجري ثلاثة آلاف جنيه»، مضيفًا «يُفترض أن نحصل على حوافز  تبلغ 700 جنيه، لكن هذه الحوافز تصرف دومًا منتقصة، وبالنسبة لي لا تزيد أبدًا عن 380 جنيه». لكن هذه الحوافز نفسها انقطعت منذ مايو الماضي، كما يقول عامل آخر يعمل في الشركة منذ 11 سنة ويتقاضى 2400 جنيه، أي أن أجره الحالي يمثل بالكاد الحد الأدنى للأجر في القطاع الخاص، والذي حُدد من قِبل المجلس القومي للأجور قبل عدة أشهر.(1)

  الامتناع عن صرف الأجور للعمال، فضلا عن ضالة تلك الاجور وتفاهتها في ظل التصاعد النفجاري في اسعار السلع والخدمات، يكشف عن حال العمال في احدى أكبر مصانع وشركات القطاع الخاص، فما بالنا بالشركات الأخرى!!

  لقد فشلت «القوى العاملة» في منع تسريح عمال المناطق الصناعية، وبسبب ذلك يعيش أكثر من 200 ألف عامل بالقطاع الخاص وأسرهم بالمنوفية والجيزة والشرقية والاسكندرية، أسؤ فترات حياتهم، حيث تعمد أصحاب المنشآت ومصانع المناطق الصناعية في تلك المحافظات، تأخير صرف رواتب العاملين منذ أكثر من عامين، وقبل أزمة جائحة كورونا، ولكن الأزمة تفاقمت بشدة مع حلول الجائحة خصوصا في شهر فبراير الماضي.

  ففي المنطقة الصناعية بقويسنا، بالمنوفية، أكد العاملون ببعض المصانع أنهم لم يتقاضوا مرتباتهم منذ عام 2019، وأصحاب المصانع يجبرونهم على الاستقالة بدون مقابل، سوى صرف 3 أشهر من مرتباتهم الاساسية بدون حوافز أو مكافآت، علما بأن متوسط المرتبات في المناطق الصناعية بقويسنا حوالي 2400 جنيه، ما يعني أن العامل سيحصل على مبلغ أقل من 10 آلاف جنيه في مقابل الاستغناء عن وظيفته وتقديم الاستقالة ولا يجوز له مطالبة الشركة أو المصنع بأي مستحقات أو يقاضيها بموجب إقرار يكتبه على نفسه مع الاستقالة غير المسببة. وقي منطقة أكتوبر الصناعية، بلغت عدد الشكوى اليومية بوزارة القوى العاملة من تعسف أصحاب المنشآت ما يقرب من 150 شكوى يومية، بمعدل متوسط 4000 شكوى شهريا ضد أصحاب العمل، وهي نسبة كبيرة تؤكد على تدهور أوضاع العاملين وتسلط أصحاب العمل.(2)

   

 المعاناة وحياة العذاب الدائم التي تعيشها الاغلبية العظمى من عمال مصر، هي حصاد مباشر للخصخصة وتدمير القطاع العام. كان وجود قطاع عام واسع ومؤثر وقائد يعطي العمال حقوقهم بشكل معقول، يصنع توازن في سوق العمل المصرية، ويدفع القطاع الخاص بدرجة أو بأخرى لانتهاج مسارات معتدلة تجاه عماله. ومع الخصخصة والرسمالة أصبحت الدولة خالية من أي سلاح في مواجه الملاك وأصحاب العمل، بل واصبحت منحازة لهم ضد العمال في الغالبية العظمى من الأحوال، فالعمال يسجلون يوميا تخاذل المسئولين بالمدريات ووزارة القوى العاملة أمام أصحاب العمل بشركات ومصانع القطاع الخاص، لذلك لا يجد العمال المتضررون أي حلول عند هؤلاء المسئولين، والأمر يقتصر فقط على التسويف والوعود الكاذبة. كما بشير الكثير من الخبراء إلى وجود ثغرات كثيرة في قانون العمل رقم 12 لسنة 2003، يستغلها أصحاب العمل للتنكيل بالعمال لديهم، وتغل يد وزارة القوى العاملة في محاسبتهم والزامهم بسداد حقوق ومستحقات العالمين لديهم. وأخيرا فإن أنشغال الدولة والحكومة في مصر باقتصاد الزفت والخرسانة (الطرق والكباري والعقارات) واهمالها المزري للقطاع الصناعي خصوصا بعد تفاقم الضغوط على هذا القطاع منذ أكثر من عقد وزيادة الأمور تدهورا مع أزمة جائحة كورونا، خفض بشكل حاد من قدرة هذا القطاع على استيعاب العمال وتسبب في انهيار قدراته التشغيلية، في الوقت الذي تتباهى به الحكومة بمعدلا ت نمو وهمية وعبثية!!  

  

  إن النار تلتهم السلم الاجتماعي بل والقدرات الحقيقة للنمو والتقدم والتطور في مصر بشكل متزايد، والدولة إما أنها تلتهي عن تلك النار أو تحاول أن تخفيها بحفلات ترويج وأوهام وتلفيقات مهينة لأي عقل ومنطق. وذلك سيظل حال في مصر، طالما تم الاستمرار في اتباع اجندات صندوق النقد الدولي والرأسمالية العالمية.

 

(١) مصدر الخبر والمعلومات موقع مدى مصر.

(٢) تحقيق بعنوان "«القوى العاملة» تفشل في منع تسريح عمال مصانع المناطق الصناعية" - جريدة صوت الملايين  العدد 285 بتاريخ 15/9/2021.

الثلاثاء، 14 سبتمبر 2021

نقلة الجدل الهيجلي

شادي عمر الشربيني



  " ويعرف هيجل الجدل قائلا: نحن نطلق اسم الجدل على تلك الحركة العليا للعقل التي فيها تتحول كل المظاهر مطلقة الانفصال إلى بعضها، والتي فيها يتم تجاوز المسلمات (علم المنطق)، وبمجرد أن يعاود الجدل الارتباط على أساس وعي مجرد بحركة الفكر فإنه يكتسب معنى جديد أعلى مستوى، إنه يصبح آداة وفناً وعلمًا" (١)

  إن هيجل يفسر الفكر تفسیرا ديناميا حركيا، يختلف عن تفسير ارسطو الثابت، وكيف يمكن للفيلسوف أن يصور هذه الدينامية المبثوثة من الفكر إلى الحياة إن لم يكن في إطار ميتافيزيقا عامة، هي أشبه بالفرض الذي يطلقه العلماء حين تحيرهم ظاهرة من الظواهر، بغية الكشف عن طبيعتها، والظاهرة المحيرة هنا هي الحياة الإنسانية، هي تاريخ البشرية، هي ذلك الصراع المحتدم الذي تنعكس نتائجه في أحداث الحياة وتقلباتها.

  وتطور العالم لا يأتي عفوا، وإنما هو تعبير عن حركة عقلية، وتضم هذه الحركة في صميمها الفكر والوجود، فهي ذات وموضوع في آن واحد، ووظيفة العقل عند  هيجل، تختلف عن تلك عند كل من دیکارت، وكانط ..

  فالعقل عند  دیکارت يجمع اليقينات التي بلغت من الوضوح والتميز أقصى حد، وعند كانط يشرع العقل للتجربة بمقولات أولية مطلقة ضرورية، وإذا كان كانط  يغفل التجربة كما أغفلها  دیکارت، فقد كان حريصا على أن يكون العقل الخالص هو المقنن لها.

  أما هيجل فيقترب من النظرة البيولوجية التطورية، التي تتمثل الطاقة البشرية طاقة تطورية مستمدة من المادة، ومن ثم فليس هنالك تعارض في الطبيعة بين المادة وبين العقل، والاختلاف بينها في الرتبة، فالعقل اسمی شانا من المادة.

  ويحرص هيجل على أن يبين لنا كيف أن الفكر قد انبث تباعا في التجربة البشرية كلها بحيث بدا الفكر في الحاضر خير معبر عن تشكل العالم تشكلا عقليا بفضل ما بذلته البشرية من جهود جبارة منذ فجر التاريخ، وتنحل الفكرة المطلقة التي يتمثل فيها التحام الواقع بالفكر حين يسلط العقل أضواءه على الواقع الذي يلوح في البداية غريبة عنه، ثم يتحقق الالتحام مرة أخرى بممارسة الجدل، فيستبعد العقل العناصر اللامعقولة من الواقع ويصوغه في صور عقلية، وينجم عن هذا أفكار متحددة أو تصورات، وهي ليست مجرد صور عقلية بعيدة عن الواقع نفسه، ففي التصور، على هذا، امتزاج بين العناصر المادية والعناصر الفكرية.

  فالتصور على هذا رابطة ضرورية وواسطة عقد لا بد منها، بين الإنسان وبين العالم الخارجي، وتاريخ البشرية هو تاريخ الفكر، وحركة التاريخ هي حركة الفكر، وعلى ذلك فتفسير الواقع لا يكون إلا بالفكر المبثوث فيه، ومن هنا أهمية التاريخ لدى «هيجل»، ففي التاريخ يتم اتحاد الفكر بالواقع .

  ويعتبر  المنهج الجدلي نقلة كيفية في تاريخ الفكر البشري، تجلوز به هيجل المنهج الارسطي، واستخدم الجدل  بطريقة متسقة وبصورة شاملة لكل جوانب الحياة وقوانينها. وهي بلا شك مأثرة عظيمة لهيجل، بل هو الجانب الايجابي في فلسفته، وإن كان جدلاً مثاليا، يقوم على وحدة الفكر والوجود، ويطابق بين قوانين الطبيعة وقوانين الفكر. إن الجدل الهيجلي إبداع فلسفي، أتت مقدماته من هيراقليطس وكانط وفشته وشلينج، ثم توجه هيجل مقدما للبشرية منطقا جدليا التفت فيه إلى جدل العقل عند كانط، متجاوزا ثنائية الظواهر والشيء في ذاته، آخذا على فشته أن يكون المطلق أحد طرفي التضاد، إذ ليس الأنا هو الذي يحدث اللا أنا، معترضا على شلينج لقوله بالأصل المشترك للأنا واللا أنا.

   ويكشف هيجل عن جوهر مساهمة كانط في مجال الجدل، خاصة في قوله التناقض  ينتمي إلى طبيعة فكرة محددة، ولكن كانط باقترابه من مبدأ الجدل هذا لم يتوصل منه إلى الاستنتاج القائل، مادام التناقض يتولد بالضرورة من فاعلية العقل، فالعقل إذا لا يمكن أن يدرك الاشياء بذاتها، وهو ملزم بأن يكتفي بالظواهر. "إن المنظور الجدلي الذي رسمه كانط في بداية التطور التاريخي للفلسفة الكلاسيكية الالمانية، هو جنين لم يكتمل بعد وقد أعتبر - كانط- فهمه السلبي نظرية له. وهو صوري في كثير من الاحيان، ولم يتوج كشف التناقضات الداخلية عادة بالتركيب الجدلي الذي يعتبر بمثابة حركة فعلية إلى الأمام، ذلك لأن الثنائية المحتمة للأشياء بذاتها والظواهر، والطبيعة والحرية، والواقع والواجب، تحط كثيرا من قدر النتائج الحاصلة. إن جدل كانط هو استفسار وطرح عميق وان لم يدركه هذا المفكر ذاته، إنه كما يقول أنجلز نقطة أنطلاق لمجمل التحرك اللاحق إلى الأمام "(٢).

  وقد عمد هيجل إلى فض الثنائية الكانطية، وانهاء النزاع بين طرفيها، أي الظواهر والشيء في ذاته، وعمل هيجل إلى حل هذه الإشكالية أو هذا التناقض العقلي عند كانط انطلاقا من تحديد العلاقة بين الظاهرة والشيء في ذاته، أو بين الفكر والواقع، لأن في تحديد العلاقة (على حد تعبير هنري لوفيفر في كتابه المنطق الجدلي) يتحدد هدف الجدل الهيجلي - أو منهج المذهب الهيجلي.

(١) هنري لوفيفر، المنطق الجدلي، ص ١٢.

(٢) أ. بوغومولوف وآخرون، تاريخ الديالكتيك الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ص ١٠٠.

الاثنين، 13 سبتمبر 2021

 11 سبتمبر.. من أشباح المؤامرة إلى الهزيمة الأمريكية

  شادي عمر الشربيني

 



 

  حتى وقت قريب، كان يعتقد الكثيرون أن الإمبراطوريات من بقايا الماضي. لكن فجأة، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، الحرب العالمية على الإرهاب وغزو العراق، عادت مسالة القوة الإمبريالية إلى مركز النقاش: يبدو أننا الآن نواجه إمبراطورية أمريكية جديدة ينظر إليها الكثير من الناس كتهديد.هل يملي السياسيون في واشنطن القواعد التي يجب على بقية العالم اتباعها؟ أم أن للإمبراطوريات منطقها الخاص الذي يجب أن يخضع له حتى أقوى الحكام؟

   وهنا نرى أن الكثير من الباحثين والمفكرين يؤرخون لبداية الإمبرطورية الأمريكية من يوم 11 سبتمبر 2001. وهو تأريخ غريب بالنسبة لي، فرأيي كان ومازال أن الولايات المتحدة الأمريكية تحولت من قوة مؤثرة عالميا وامبريالية إقليمية إلى إمبراطورية عالمية منذ حرب العالمية الثانية، فهي وريث الإمبرطوريات الغربية المتداعية بعد تلك الحرب. لكن على العموم أختيار سلة معتبرة من المفكرين والباحثين لهذا اليوم كبداية لتحول الولايات المتحدة للنمط الإمبراطوري، له دلالته ومغذاه التي يجب التوقف أمامها.

  يوم 11 سبتمبر 2001، يوم ضرب برجي مانهاتن التوأمين، حينما استولى انتحاريون على طائرات ركاب أمريكية وصدموا بها ناطحتي سحاب في نيويورك مما أسفر عن مقتل آلاف الأشخاص، كما حدث نفس الشيء تقريبا بالنسبة للبنتاجون، ولكن طائرة الركاب التي توجه بها انتحاري إلى مبنى البنتاجون اصطدمت بجناح خالي منه، كان يخضع للإصلاحات!!

  لقد كان يوم كارثي على العالم أجمع، ليس فقط بسبب هول العملية وعدد ضحايها، ولكن لأنها كانت موجهة ضد وحدثت على أراضي القوة العظمى الأكبرعلى وجه الأرض في زمانها. وبالفعل فقد أعلنت واشنطن حرب ممتدة واسعة على الإرهاب، عدوها الرئيسي فيها هو التنظيمات الجهادية الإسلامية، تلك التنظيمات التي كانت قبل عشر سنوات الحليف الأول للولايات المتحدة الأمريكية في محاربة إمبراطورية الشر السوفيتية وإسقاطها خصوصا في افغانستان. تحول الحليف الأقرب إلى العدو الأول، وباسم محاربته شنت حرب عالمية رابعة ميدانها هو الكرة الارضية بأكملها، كان من أبرز نتائجها هو الاجتياح الامريكي لأفغانستان والعراق، ومن لا يحارب فيها بجانب الولايات المتحدة الامريكية فهو تلقائيا عدوها!!

  ظهرت نظريات عديدة في كتب وأفلام حول عدم براءة حادثة 11 سبتمبر من المؤامرة، بدءا من أنه كان هناك تغافل متعمد تجاه هؤلاء الذين رتبوا وخططوا للعملية ونفذوها، إلى التدبير المقصود للعملية من قبل جهات أمريكية بذاتها، وذلك لتبرير الانطلاقة العسكرية الامريكية العالمية، وإخضاع العالم بأكمله تحت الحذاء الأمريكي..!!  

  نقرأ في كتاب "التاريخ الكامل للعالم" ما بمكن تسميته بمجمل الرد على نظريات المؤامرة بخصوص تلك الحادثة، وبيان ما بها من سخافة، حيث يورد الكتاب محاولة سابقة للمتطرفين المسلمين، عام 1994، لتحويل طائرة الخطوط الجوية الفرنسية بهدف جعلها تصطدم ببرج إيفل. وقد فشلت محاولتهم، لأنهم اضطروا إلى الاعتماد على الطيارين الفرنسيين الذين حطوا بالإيرباص في مارينيان حيث تمكن قوات التدخل التابعة للدرك الوطني (GIGN) من الانقضاض عليهم. واستنتج المتطرفون أنه كان عليهم تكوين طيارين. والواقع أن الانتحاريين الذين استولوا على الطائرات الامريكية قد قادوها بأنفسهم. وللطرفة، فقط حصل أحد الانتحاريين على الشهالدة الأمريكية لقيادة الطائرات بعد موته (1).

  إذا فقد كانت فكرة تحويل طائرات مدنية (مليئة بالكيروسين عند إقلاعها) إلى قنابل، موجودة عند الجهاديين منذ زمن، وهي حتى ولو بدت لنا شاذة، لكنها فعالة. وقد ميعت الحرارة التي أحدثتها احتراق الأبراج هيكلها المعدنب وأذابته. وقد أصابت الدهشة حتى بن لادن نفسه. وقد حصل على 3000 قتيل وأثرا بصريا "صاعقا". وكان بن لادن، المتصل الجيد، في غاية الرضى: فقط اجتذبت الطائرة الأولى الكاميرات وتمكنت جميع التليفزيونات من أن تصور الصدمة الثانية بكل ارتياح(2).

 

  لكن من ناحية أخرى تجد مقولة المؤامرة فيما حدث في 11 سبتمبر 2001 مبررتها في نظام المجتمع الأمريكي الديمقراطي نفسه، كما يذهب إلى ذلك بعض المحللين. فالمجتماعات الديمقراطية على وجه الخصوص أقل تعلقا بخوض المجابهات العسكرية، ولا تعد المشاركة في العمليات الحربية وسيلة لنيل الشهرة والشرف، بل هي تقيم الحروب وفق حسابات الربح والخسارة؛ أي وفق حسابات كثيرا ما تؤكد أن الحروب لا جدوى [اقتصادية] منها؛ فكلفتها تفوق عائدها في أغلب الأحيان. وعند إمعان النظر يلاحظ المرء بيسر أن الرئيس الامريكي الذي يتخذ قرارا بخوض الحرب لا يحظى بدعم المواطنين بسهولة، لذلك نجد السلطات الامريكية تتذرع بمسوغات ملفقة في كثير من الاحيان عند شن هذه الحرب أو تلك، فابتداء مما يسمى بحادثة تونكينج* عام 1964 – وهي حادثة استخدمت ذريعة لبدء الغارات الجوية على فيتنام الشمالية – ومرورا بزعم أن الجنود العراقيين قد قتلوا أطفالا كويتيين يرقدون في صناديق الحضانة – وهو زعم استخدمته الولايات المتحدة للتعبأة ضد العراق وشن حرب في الخليج عام 1991 – وانتهاءا بادعاء امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل وأنه يشكل تهديدا كبيرا بالنسبة إلى العالم الحر. لكن من أكثر تلك المزاعم خطورة وعلى صلة قريبة بمنطق هجمات سبتمبر، هو حينما وضع رئيس الأركان الأمريكي ليمان ليمنيتسر Lyman Lemnitzer، خطته المسماة نورثر وودز Operation Northerwoods، والقاضية بأن تٌشن هجمات إرهابية وتُجرى عمليات اغتيال للكثير من المواطنين المدنيين في شوارع المدن الأمريكية؛ بغية كسب تأييد المواطنين الأمريكيين غزو كوبا. كان الكشف عن هذه الخطة قد أجبر ليمنيستر على تقديم استقالته، إلا أن اعتقاد أن الإدارة الأمريكية لا تختلق التهديدات والمخاطر فحسب، بل تقوم بهجمات على مواطنيها أيضا، قد عٌزِّز منذ هجمات الحادي عشر أيلول/سبتمبر 2001، وأفرز الكثير من النظريات التي تؤكد أن الحكومة الأمريكية نفسها قد تآمرت على شعبها(3).

  يمكن رؤية هذه الأكاذيب على أنها دليل يشهد أن السياسة الأمريكية لا تتصف بالمصداقية أبدا، وأنها تستخدم هذه الأكاذيب لاختلاق تهديدات ومخاطر تتذرع بها لفرض مصالحها وتوسيع رقعة سلطانها. ويمكن فهم الأسباب الهيكلية التي تُجبر الولايات المتحدة الأمريكية على اختلاق تهديدات ومخاطر؛ ففي النظام الليبرالي، تعتبر هذه الأكاذيب وسيلة ناجعة لكسب تأييد الرأي العام ولحفز المواطنين على مناصرة النظام الإمبراطوري. وبهذا المعنى، فإن تضليل الرأي العام من خلال الأكاذيب واختلاق التهديدات والمخاطر وسيلة لسد الفجوة القائمة بين مستلزمات الليبرالية ومتطلبات الإمبراطورية.

  ولكن بصرف النظر عن توصيف طبيعة ما حدث في أحداث ايلول/سبتمبر 2001، فإنه من المفيد الآن بعد مرور 20 عاما على بدأ الحرب الأمريكية المعولمة ضد الإرهاب، إلقاء نظرة على مآلات تلك الحرب وحصادها. في افعانستان انهار النظام الذي عملت الولايات المتحده على أقامته لمدة 20 عاما في غمضة عين، وعادت طالبان للسلطة مكللة بنصر ساحق! العراق نعرف أحواله جميعا، ونرى كيف حولته الديمقراطية الامريكية إلى حطام وبقايا وطن. أما تنظيم القاعدة فهو لم يستمر فقط، بل ظهرت تنظيمات أكثر تشددا وعنفا وقسوة ودموية منه بمئات المراحل، ظهر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي لم يكن لولا الفوضى الامريكية (الخلاقة) في العراق وسوريا، والملفت هنا أن هذا التنظيم لم يتم احراز نجاح في تحجيمه إلا بعد التدخل الإيراني الواسع في العراق والتدخل الروسي الواسع أيضا في سوريا، حرب الولايات المتحدة ضد هذا التنظيم لم تثمر بل وكان تنظيم الدولة يتمدد في ظلها، قبل التدخل الروسي والإيراني. المشكل الأكبر أن تنظيم الدولة لم يعد مستوطنا في العراق وسوريا فقط، بل استوطن أيضا بشكل واضح وصريح في اليمن وليبيا ومصر وحتى نيجريا، بل وفي افغانستان نفسها..!! هذا ولم تسلم قارة من قارات العالم، سوى أمريكا اللاتينية حتى لحظة كتابة تلك السطور، من عملياته الدموية المرعبة....

  لا مكان الان وهنا لفتح المزيد من ملف الحرب الأمريكية ضد الارهاب وحصادها، لكن ما نستطيع أن نراه بوضوح أمام أعينا أن الإمبراطورية منهكة ومستنزفة وتعمل على تغطية انسحبها العسكري العالمي بمختلف الوسائل، وتعويضه بحضور أخر أٌقل كلفة حتى تشتري زمن اخر تضيفه إلى عمرها..!!

 

(١) جان كلود باور – غيوم بيغو، التاريخ الكامل للعالم، ص 334.

(٢) المصدر نفسه، ص 335.

* تونكينج: خليج يقع في فيتنام الشمالية. والمقصود بهذه الحادثة هو زعم إدارة ليندون جونسون أن فيتنما الشمالية قد شنت في آب/أغسطس 1964 هجوما على السفينة الحربية الأمريكية مادوكس Maddox. وكان بعض موظفي البنتاجون قد كشفوا لاحقا أن الأمر كذبة تذرعت بها الإدارة الأمريكية لقصف فيتنام الشمالية.

(3) هيرفريد مونكلر، الإمبراطوريات: منطق الهيمنة العالمية، ص 277 - 278.