الصفحات

الجمعة، 1 سبتمبر 2023

زكي نجيب محمود.. تعريف ومدخل عام مع إشارة خاصة لكتاب «تجديد الفكر العربي»

زكي نجيب محمود.. تعريف ومدخل عام مع إشارة خاصة لكتاب «تجديد الفكر العربي»

                                        شادي عمر الشربيني

  


  تتفق الأغلبية أن زكي نجيب محمود واحد من أبرز فلاسفة العرب ومفكريهم في القرن العشرين، وأحد رُوَّاد الفلسفة الوضعية المنطقية*. من المميزات الرئيسية لكتابات والإنتاج الفكري بشكل لنجيب محمود أنها اشتبكت، بعمق وتبصر، مع قضايا الفكر الفلسفي العالمي المعاصر، التي تتسم بالكثير من التجريد والشمولية، وفي الوقت نفسه اهتمت وغاصت وتجولت في همة وتفاني المفكر الحامل لهموم وقضايا أمته، في الإشكاليات والأزمات والأعاصير التي تعصف بالعقل العربي قي زماننا وتضغط على النفس العربية بقوة وإلحاح عند مفترق طرق وجودية. وهكذا فإنه من ذلك النوع من المفكرين الذين يروقون لي شخصيا، بل ويشكل مثال ومصدر ضوء كاشف أهتدي به في مساري الفكري والثقافي وما أسعى أن أؤديه لأمتي..

  إن نجيب محمود بإنتاجه الفكري الغزير والمتنوع والمتميز بتماسكه وخوضه في قضايا محورية وأساسية في الفكر والحياة المعاصرة بشكل عام، جعل من نفسه كاتب ومفكر يستحيل تجاهله لكل من يقترب، أو يحاول أن يقترب، من تلك القضايا بل ومن مجمل الوضع العربي المعاصر. فالاطلاع على أطروحاته بشأن تلك القضايا، فضلا عن مناقشتها والوقوف أمامها علما ودرسا وفحصا وتحليلا، يبقى لا بديل عنه لأي مثقف جاد يسعى إلى أن يكون مخلصا في مهمته وللقضايا التي يقترب منها ويسهم في تناولها. إن محمود مفكر من ذلك النوع الذي حتى لو اختلفت كليا مع أطروحاته، فإنك لا تملك في الوقت نفسه إلا الوقوف أمامها.. وطويلا..     

  قد تكون اللغة العربية التي كتب بها المفكر المصري زكي نجيب محمود، واحدة من أنقى ما كتب به أي مفكر عربي على الإطلاق. ومن هنا لم يكن غريباً أن يصفه عباس محمود العقاد بأنه «فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة؛ فهو مفكِّرٌ يصوغ فكره أدبًا، وأديبٌ يجعل من أدبه فلسفة.» ومع هذا كان صاحب "مجتمع جديد أو الكارثة" و"تجديد الفكر العربي"، واحداً من أبعد الكتاب العرب عن اللجوء إلى ما يسمى "حديث الذات". ومن هنا نراه حتى حين أراد أن يكتب سيرته في مرحلة متقدمة من حياته، يستعير من أستاذه طه حسين استخدامه ضمير الغائب في روايته تفاصيل تلك الحياة، بل حتى مجريات فكره فيسمي بطله، كما يفعل طه حسين "صاحبنا". بل هو لم يكتفِ بهذا، حيث نجده حين أراد وبشكل مبكر أن يعطي صورة ما لأفكاره وتطلعاته الاجتماعية، يلجأ في كتاب صغير له عنوانه "أرض الأحلام" إلى استعراض وتحليل أربعة من تلك الكتب العالمية التي تتعامل مع مفاهيم المدينة الفاضلة، واصفاً من خلالها الصورة المثالية للمجتمع الذي سيشغل باله وكتاباته لاحقاً ويكرس له عدداً كبيراً من كتبه الأساسية.

 

ملامح من سيرته الحياتية والعملية:


  وُلِد زكي نجيب محمود في قرية «ميت الخولي عبد الله» بمحافظة دمياط في أول فبراير سنة ١٩٠٥م، والتحق بكُتَّاب القرية، تعلم في مدرسة السلطان مصطفى الاولية في ميدان السيدة زينب في القاهرة، وعندما نُقِل والده إلى وظيفةٍ بحكومة السودان أكمَلَ تعليمَه في المرحلة الابتدائية  والثانوية بمدرسة «كلية جوردون» في الخرطوم، وبعد عودته إلى مصر أكمَلَ المرحلةَ الثانوية، ثم تخرَّجَ في مدرسة المُعلمين العليا بالقسم الأدبي سنة ١٩٣٠م، فتخرج وعمل بالتدريس حتى سنة 1943، وفي سنة ١٩٤٤م أُرسِل في بعثةٍ إلى إنجلترا حصل خلالها على «بكالوريوس الشرفية من الطبقة الأولى» في الفلسفة من جامعة لندن؛ لينال بعدَها مباشَرةً درجةَ الدكتوراه في الفلسفة من كلية الملك بلندن سنة ١٩٤٧م، وكانت أطروحته بعنوان «الجبر الذاتي»، وقد ترجمها تلميذه الدكتور إمام عبد الفتاح إلى العربية.

  عين مستشارًا ثقافيًا للسفارة المصرية في واشنطن، وعضوًا في المجلس القومي للثقافة. بعد عودته إلى مصر التحق بهيئة التدريس في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، وظل بها حتى أحيل على التقاعد سنة 1965م، وعمل بها أستاذًا متفرغًا، ثم سافر إلى الكويت سنة 1968م، حيث عمل أستاذًا للفلسفة بجامعة الكويت لمدة خمس سنوات متصلة.

  إلى جانب عمله الأكاديمي انتدب سنة 1953م للعمل في وزارة الإرشاد القومي (الثقافة) وهي الوزارة التي أنشأتها حكومة الثورة، ثم سافر بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام نفسه، وعمل أستاذًا زائرًا في جامعة كولومبيا بولاية كارولينا الجنوبية، وبعد أن أمضى بها الفصل الدراسي الأول انتقل إلى التدريس بجامعة بولمان بولاية واشنطن في الفصل الدراسي الثاني، ثم عمل ملحقًا ثقافيًا بالسفارة المصرية بواشنطن بين عامي (1954-1955م).

  في سنة 1965م عهدت إليه وزارة الإرشاد القومي (الثقافة) في عهد وزيرها محمد عبد القادر حاتم بإنشاء مجلة فكرية رصينة تعنى بالتيارات الفكرية والفلسفية المعاصرة، فأصدر مجلة (الفكر المعاصر) ورأس تحريرها وقام عليها خير قيام، ودعا كبار رجال الفكر في مصر للكتابة فيها، وشارك هو فيها بمقال شهري ثابت تحت عنوان (تيارات فلسفية)، وظل يرأس تحريرها حتى سافر إلى الكويت للعمل في جامعتها، وبعد عودته من الكويت انضم إلى الأسرة الأدبية بجريدة الأهرام سنة 1973م، وشارك بمقاله الأسبوعي الذي كان ينشره على صفحاتها كل ثلاثاء، وبلغ من اهتمام الصحافة بهذه المقالة الرصينة أن خمس صحف عربية كانت تنشر هذا المقال في نفس يوم صدوره بالقاهرة.

  انضمَّ إلى لجنةِ التأليف والترجمة والنشر ليشترك مع أحمد أمين في إصدارِ سلسلةٍ من الكتب الخاصة بالفلسفة وتاريخ الآداب بأسلوبٍ واضحٍ سهلٍ يتلقَّاه المثقفُ العام.

  حصَد العديدَ من الجوائز والأوسمة على أعماله، منها: جائزة التفوق الأدبي من وزارة المعارف (التربية والتعليم الآن) عام ١٩٣٩م عن كتابه «أرض الأحلام»، وجائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة سنة ١٩٦٠م عن كتابه «نحو فلسفة عِلمية»، ووسام الفنون والآداب من الطبقة الأولى عام ١٩٦٠م، وجائزة الدولة التقديرية في الأدب عام ١٩٧٥م وقد سلّمه إيّاها الأستاذ بسام مؤنس حسن، ووسام الجمهورية من الطبقة الأولى عام ١٩٧٥م، وجائزة الثقافة العربية من جامعة الدول العربية عام ١٩٨٤م، وجائزة سلطان بن علي العويس عام ١٩٩١م. كما منحَتْه الجامعة الأمريكية بالقاهرة درجةَ الدكتوراه الفخرية سنة ١٩٨٥م.

   كان الدكتور زكي نجيب المدشّن الأول لتيار الوضعية المنطقية في مصر والعالم العربي والإسلامي، وأصدر عشرات المؤلفات في شتى حقول المعرفة، تراوحت بين الفكر والثقافة وتاريخ الفلسفة والمنطق والترجمة، من بينها:

·      نظرية المعرفة

·      المنطق الوضعي

·      خرافة الميتافيزيقا (الطبعة الأولى) ثم أعيد تسميته في الطبعات اللاحقة إلى موقف من الميتافيزيقا.

·      نحو فلسفة علمية

·      حياة الفكر في العالم الجديد

·      برتراند راسل

·      ديفيد هيوم

      وغيرها من المؤلفات التي يمكن وصفها بأنها مثلت مرحلة التأسيسي النظري والبحث في الفكر الغربي، قبل أن يتوجه جهده نحو البحث في الفكر العربي الإسلامي، وذلك عبر عدد من المؤلفات من بينها:

·      قشور ولباب

·      تجديد الفكر العربي

·      المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

·      ثقافتنا في مواجهة العصر

·      في حياتنا العقلية

·      مجتمع جديد أو الكارثة

·      رؤية إسلامية

·      في تحديث الثقافة العربية

·      قيم من التراث

·      بذور وجذور

 

كتاب «تجديد الفكر العربي»:


  يمثل كتاب «تجديد الفكر العربي» مرحلة مهمة في التحول الفكري لدى الدكتور زكي نجيب مجمود، الذي درس الفلسفة الحديثة في أوروبا وتأثر بمناهجها ومدارسها السائدة آنذاك، حتى بدا له أن الحلول الفكرية لمشكلات الواقع العربي لا يمكن أن تتعدى حيز تلك المذاهب الفكرية والفلسفية، ولم يكن يرى في التراث العربي عموماً، قبل هذا الكتاب أكثر من كونه نوعاً من الخرافة الميتافيزيقية التي لا تصمد أمام يستدعيه الوضعية المنطقية الصارم، لكن عودته إلى التراث هنا، وجهده الواضح نحو أعادة المراجعة على ضوء مشكلات العصر تلخصان حتى بالنسبة لزكي نجيب محمود نفسه، أهمية معاودة للسؤال الحيوي حول ذلك التراث، وإعادة الاعتبار إليه وتخليصه من الصورة النمطية المحصورة بين حدّي الغيب والخرافة.

  فما بين فكرة التقديس التام للماضي، او دعوات القطيعة النهائية معه، ثمة طريق ثالث يمكن أن يحل هذه الإشكالية، إنه الاختبار التجريبي لمدى قدرة هذا الماضي على الحضور في الواقع تحققاً ممكناً، وذلك ما يضعه الكاتب في «تجديد الفكر العربي» أساساً علمياً لنتواصل مع الفكر العربي وتجديده بما يقتضيه راهن الحال. هو ينظر إلى الثقافة العربية بمنظور أوسع من حيزها الجمالي الفني أو الأدبي، ليؤكد على القيم التي تنتج حياة أبعد من أن تكون معزولة في اللفظ أو البلاغة، أو مجردة من نموذجها الفكري، وهي بهذا المعنى رؤيا وسلوك متلازمان. ومن خلال تأكيد زكي نجيب محمود على اقتران العلم بالعمل، فإن جدل الثقافة / الحياة لن يكون هنا سوى النتيجة لتحقيق معنى التجديد ببعده الجوهري وبارتباطه العضوي بشرطه التاريخي وبلحظته الراهنة في الوقت نفسه، ولن يكون التجديد هنا ذو نزعة (ثورية) تعني تقويضاً شاملاً لما كان ولا نسفاً أو اقتلاعاً للجذور، بل رسم خريطة أخرى (جديدة) على الأرض ذاتها.

  وإذا كان زكي نجيب محمود فد تمسك بمنهج الوضعية المنطقية في مجمل بحوثه الفكرية، فإنه لم يجعل من هذا المنهج عقيدة محضة. هو تمسك وإن اقترب من التبني لكنه لم يصل به إلى مرحلة التبشير والدعوة إلا في الإطار البحثي العلمي، فبقيت الوضعية المنطقية في حدود المنهج. ومن هنا تأتي أهمية إعادة بحثه في التراث الفكري العربي، فالتراث الذي سيبدو ملغزاً وملتبساً ومتداخلاً، ويغتزل بنوع من النشاط الغيبي ليس إلا، سيعني حضوره في الوضعية المنطقية صورة أخرى تكسر الإطار التقليدي المتوارث والمختزل، ليبدو عابراً للأزمنة، وسيكون مجاله الحيوي مفتوحا على الاحتمالات وقابلاً للمراجعة باستمرار.

  كما يكتس الكتاب أهمية تأتي هذه المرة من كون المشكلات التي يناقشها هي نفسها المشكلات التي تعترض طريق التجديد والنهضة عموماً منذ بدأ السؤال عن أهميتهما معاً. وهذه المشكلات وإن بدت متباينة في الصيغة والمعطى والتعبير، لكنها بقيت واحدة في الجوهر، لذلك فإن مقترحات هذا الكتاب وأسئلته تبقى قائمة ومشروعة طالما أن لا شيء تغير عن أصل تلك المشكلات.

  إنه من الملاحظ أن الطبعة الأولى من هذا الكتاب صدرت في سنة 1971، أي أن من الممكن الترجيح أن الكثير من فصول هذا الكتاب، إن لم يكن كلها، كتبت غالباً عقب نكسة 67 وما أعقبها من أزمة خطيرة ألمت بالوجدان العربي وتصاعد الصيحات بالعودة إلى التراث والفكر بل والعقل الذي كان سائدا بمنطقتنا في العصر الوسيط وحتى ما قبل الحداثة، مع القول إن هذه الفترة هي فترة الاستقلال والقوة والمنعة، إنها الفترة الذهبية التي يجب أن نرتد إليها بكل قوانا وطاقتنا العقلية والنفسية والروحية. من الواضح أن زكي نجيب محمود في هذا الكتاب يقف أمام هذه الموجة المتصاعدة ويسعى أن ينبه إلى أن التحديث لم يتجذر أساسا في الفكر والعقل العربي، فهو لا يزال عند القشور ويحتاج إلى مده اتساعا وعمقا حتى نتصل مرة أخرى بالعصر ونعود إلى التاريخ، فاستعرض الكثير من القضايا التي استغرقت الفكر العربي في الماضي وشكلت جزء ضخم من تراثه، لكنها أصبحت خارج تناول فكر العصر ومجافيه لروحه. في الوقت نفسه، فإنه تلبية لمطلب ملح نابع من أعماق النفس بتطلع إلى الاستقلال الحضاري والتميز الثقافي، فإن محمود عمل في صبر ودائب وإبداع حقيقي على العمل على مد الجسور بين ما يمكن أن يشكل أفكار وتيارات رئيسية موجودة في هذا التراث وتصلح للمساهمة في نقاش العصر وفكره والتصدي لمشكاله وإشكالياته. إنها محاولة مبدعة من عقل وروح منتمي يحمل هموم أمته ويخوض معارك هي ربما من أخطر معاركها وأكثرها محورية في هذا الزمان وربما كل زمان.. معركة التحول والولادة والخلق التي يفرضها تجدد الزمن البشري في حركته، واستمرارية تاريخية مطلوبة لسلامة العقل والروح والبناء الاجتماعي والغني الحضاري والثقافي.   

  لذلك فإن كتاب «تجديد الفكر العربي» في تقديري يظل غير قابل للتجاوز لأي مهتم بالفكر العربي المعاصر و/أو مهموم بقضية التقدم والاستمرارية والاتساق التي تشكل ربما المعضلة الرئيسية (بألف لام التعريف) للإنسان العربي في هذا الزمان.     

 

هامش:

  الوضعية المنطقية: الوضعية المنطقية logical positivism اتجاه في الفلسفة العلمية منبثق من الوضعية ظهر في القرن العشرين، يعول أساساً على التجربة تحقيقاً للدقة والبناء المنطقي للمعرفة العلمية بهدف تنظيم المعرفة داخل نسق «وحدة العلم» كي يزيل الفروق بين فروع العلوم المختلفة بدعوى أنه لا يمكن قيام فلسفة علمية أصيلة إلا بوساطة التحليل المنطقي للعلم. وقد أطلق على هذه الفلسفة أسماء عديدة منها: التجريبية العلمية والتجريبية المنطقية وحركة وحدة العلم والتجريبية المتسقة، والفلسفة التحليلية. وقد تولد منها وضعيات أخرى مثل الوضعية المنطقية في علم الأخلاق والسياسة الوضعية، وتأثرت بها عدة فلسفات معاصرة مثل البراغماتية[ر] «الذرائعية».

  بدأت الوضعية المنطقية كحركة فلسفية ظهرت في النمسا وألمانيا في العقد الثاني من القرن العشرين. تعنى هذه الحركة الفلسفية بالتحليل المنطقي للمعرفة العلمية، حيث تؤكد أن المقولات الميتافيزيقية، أو الدينية، أو القيمية، فارغة من أي معنى إدراكي، وبالتالي، لا تعدو كونها تعبيرًا عن مشاعرَ أو رغبات. إذًا، فقط المقولات الرياضية والمنطقية، والطبيعية هي ذات معنى محدد. من ضمن المفكرين الذين ينتمون لهذه الحركة رودولف كارناب (1891-1970)، والذي يعتبر علمًا من أعلام الحركة، هيربيرت فغل (1902-1988)، كيرت جرلينج (1866-1942)، هانس هان (1879-1934)، وكارل هيمبل (1905-1997).

الخميس، 4 أغسطس 2022

مصطلحات سيئة السمعة.. 1- الإصلاح الاقتصادي

  

مصطلحات سيئة السمعة.. 1- الإصلاح الاقتصادي

                                                   شادي عمر الشربيني       

                                           

  في خطابه بمناسبة الذكرى السبعين لثورة 23 يوليو كان العنوان الرئيسي الذي تصدر الجرائد هو.. الرئيس السيسي: جهود الإصلاح الاقتصادي ساهمت في الصمود أمام التحديات العالمية.

  إن مصطلح الإصلاح الاقتصادي في حياة المواطن المصري البسيط، الذي يشكل البنية الرئيسية والسواد الأعظم لهذا الشعب، أتى دائما مصحوبا بموجات الغلاء وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية وتراجع في مستويات المعيشة. فالإصلاح الاقتصادي في مصر كان مرادفا لتقليص الدولة المصرية بنود انفاقها على مختلف الخدمات والسلع المقدمة للجماهير، فحل الأزمات المالية وانخفاض موارد للدولة لا يكون عن طريق زيادة تلك الموارد وتنميتها، بل أصبح يتم عن طريق الاقتطاع من الدعم الذي تقدمه للجماهير يتبعه زيادة أسعار وتكلفة الخدمات الاساسية، أو في الخطوة واللمسة الأخيرة تخارج الدولة جزئيا ثم كليا من القطاعات الاقتصادية والخدماتية وترك الطبقات الفقيرة والمتوسطة نهبا لقوى السوق، حيث تصبح الجماهير فريسة سائغة بين أنياب تلك القوى، وما يتبع ذلك من إفقار متزايد للمصريين.

  لقد كان دائما المضمون الرئيسي لما يسمى بالإصلاح الاقتصادي، هو تصفية الملكية العامة والقطاع العام، وترافق مع ذلك انهيار مستمر ومستدام للبنى والقوى الإنتاجية في مصر، فتحت شعار الخصخصة تم ويتم تدمير شركات القطاع العام وتصفية قلاع مصر الصناعية والتقنية. كان دائما حصاد هذا البرنامج زيادة منسوب التبعية الاقتصادية والسياسية لمصر، وانهيار عملتها الوطنية، وتدمير اقتصاد وطني قائم على العمل الحقيقي المنتج الجاد لصالح أنشطة السمسرة والاعمال الطفيلية واقتصاديات الترفيه والتخديم على المركز الرأسمالي الغربي و/أو الخضوع لقوى الريع النفطي والمنظومة القبائلية البترودولارية في المنطقة. وهكذا تم ويتم توجيه الضربات القاصمة، وأرجوا ألا تكون القاضية، لقيادة مصر الإقليمية ومكانتها الدولية وتأثيرها العالمي.

  كان قيام مصر الناصرية بعد نجاح حركة الضباط الاحرار في الوصول للسلطة في 23 يوليو 1952، هو الذي أعطى تلك الحركة بعدها ومعناها الثوري العظيم. فمصر الناصرية اتجهت إلى سياسات التمصير وتخليص الاقتصاد من سيطرة الأجانب، فأي استقلال سياسي هو مفرغ من أي معنى طالما ظلت السيطرة الأجنبية هي الغالبة والمتحكمة في أغلب القطاعات الاقتصادية، ويتم نزح نتاج العمل وموارد البلاد للخارج. ثم إن الدولة في مصر الناصرية راحت تزيد من تدخلها في الاقتصاد وإعادة توزيع موارده لصالح الأغلبية العاملة والمعدمة من الشعب. ومع سقوط رهان النظام الجديد في مصر على قيام رأسمالية وطنية نشطة، تنهض بالعملية التنموية في مختلف القطاعات، كان الذهاب إلى التأميم والعمل على تركيز جزء كبير من الثروة، وليس كلها، في يد الدولة ليتم توجيهها لبناء اقتصاد وطني متقدم صناعي وحديث يصب نتاج العمل فيه، إلى حد كبير، في أيدي القوة العاملة، وليس الملاك والمنتفعين. أسفرت تلك الإجراءات عن توسيع الملكية العامة ونشأة القطاع العام بقلاعه الصناعية الرائعة وقيام شركات كبيرة تعمل في مختلف قطاعات البناء والخدمات، بحيث شكل القطاع العام القوة المجتمعية والاقتصادية الأولى، وكان هو الرافعة الرئيسية للتنمية والتحديث الشامل في مصر. كان وجود قطاع عام قوي هو الذي مكن مصر من امتصاص ضربة 1967 المدمرة وإعادة بناء الجيش على أحدث المستويات والكفاءة العملية والقتالية ومن ثم إمكان تحرير الأراضي المحتلة، كما أن هذا القطاع هو الذي جعل من التنمية عملية مستمرة وقائمة حتى أثناء سنوات الحرب القاسية، حيث استطاعت مصر استكمال بناء السد العالي، الذي اختارته الهيئة الدولية كأعظم مشروع هندسي شيد في القرن العشرين، واستكمال مجمع الألمونيوم في نجع حمادي وغيره من عشرات المشاريع الصناعية والتنموية في مختلف ارجاء مصر. ومن ثم كان تفكيك القطاع العام وإنهاء وجوده هدف أساسي ومركزي للأمريكيين والصهاينة وقوى السيطرة الغربية بنحو شامل.

 


  لقد نشأ وبدأ ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي في قلب الثورة المضادة التي قادها الرئيس السادات، واستمر وتطور في ظل الرئاسة الثلاثينية لمبارك، حيث لم يكن في جوهره إلا تفكيك وتدمير القطاع العام، وتجريد المجتمع من قواه الإنتاجية والتقدمية وإعادة السيطرة الأجنبية على الاقتصاد وتصفية إمكانات قيام نمو حقيقي ومستدام لمصر. ذلك مفهوم تمامًا ضمن خطة سلب مصر استقلالها السياسي الذي انتزعته بعد 1952 وإنهاء قيادتها الرائدة للحركة الوحدوية التقدمية على طول العالم العربي، وتقزيمها وحصرها داخل حدودها، بل والسيطرة على والاقتطاع من تلك الحدود ذاتها.

 

  لقد شهدنا جميعا أن الرئيس السيسي ما هو إلى امتداد للسياسات التي دشنتها المرحلة الساداتية، حيث الاستمرار في تصفية القطاع العام وتدمير قوى مصر الصناعية الكبرى كما حدث أخيرا في التصفية النهائية لمصانع الحديد والصلب في حلوان وما يحدث حاليًا من تصفية مصنع الكوك، ثم إغراق مصر في وربطها من العنق بسلاسل الديون التي تبتلعها مشاريع محدودة، أو حتى معدومة، العائد ولا تضيف شيء إلى القوى الإنتاجية في مصر. يحدث ذلك وسط ارتفاع مستمر للأسعار، مثلاً ارتفع سعر تذكرة مترو الانفاق 19 مرة في عهد الرئيس السيسي حتى وقت كتابة هذا المقال، وتوسيع دائرة الفقر وانخفاض مستويات المعيشة للأغلبية في بر مصر. ثم يأتي خطاب الرئيس عن دور الإصلاح الاقتصادي في الصمود أمام التحديات العالمية..!!!!


  عشرات السنين مرت على بدأ برنامج الخصخصة وتفكيك القطاع العام وتصفية الملكية العامة، وهي مدة زمنية أكثر من كافية لقياس نتائج هذا البرنامج وحصاده، ولكن لا أجد حتى الآن دراسة قامت بها أيا من مؤسسات الدولة للكشف عن ذلك.. ما مصير الشركات التي تم خصخصتها؟؟ هل استطاعت الرأسمالية المصرية تعويض مصانع ومعامل القطاع العام وقواه الإنتاجية؟؟ هل استطاع الاستثمار الأجنبي تعويض ما تم تفكيكه وتدميره من بنى اقتصادية ذات ابعاد تنموية وتقدمية بل وخدمية واسعة؟؟!!

  أسئلة لا يريد أحد الإجابة عليها داخل الدولة المصرية.. لأن أي إجابة حقيقية تعني على الأقل وقف مسلسل الإهلاك والسحق والتدمير المستمر حتى الآن تحت لافتة الإصلاح الاقتصادي!!

 

الأربعاء، 13 يوليو 2022

الحرافيش.. إنجاز محفوظ الأكبر

 الحرافيش.. إنجاز محفوظ الأكبر

شادي عمر الشربيني

 


انتهيت مؤخرا من قراءة رواية محفوظ الأكبر "الحرافيش" أو "ملحمة الحرافيش" لأنها تتكون من عشر روايات متتالية، كل رواية تسلم للأخرى.

  لقد تأخرت كثيرا في القراءة لمحفوظ، ربما لعدم إعجابي بآرائه السياسية بشكل أساسي، ولكن بصرف النظر عن الاسباب فهذا تقصير مخل وخطير من جانبي، وعلى العموم فإنه منذ عهد طويل لم يكن عدم اتفاقي مع وجهة نظر أو اراء كاتب معين مانع لقراءتي إنتاجه، بل إنه منذ مدة لا أذكر بدايتها فإن أغلب الكتب التي أقراءها هي لهؤلاء الذين لا أتفق مع الكثير من اراءهم، وبالرغم من أن هذا مرهق أثناء القراءة، إلا إنه مفيد جدا في النمو المعرفي والثقافي، بل والعقلي والنفسي.  

  ولأنني كنت متشوق للدخول إلى حضرة الرواية المحفوظية واكتشافها مباشرة بدون وسطاء، فقد اقترحت على مجموعة من الأصدقاء اثناء وضع الخطة السنوية لقراءة ومناقشة عدد من الكتب أن تكون رواية "خان الخليلى" ضمن تلك الكتب على أساس أنها ليست رواية كبيرة لمحفوظ (أكثر قليلا من 250 صفحة)، ولكن تم تحويل الاقتراح إلى قراءة ومناقشة "الحرافيش"، وأنت تشاء لكن الاقدار لها مشيئتها كما يقولون، ولها عندي شكر مستحق على اختيارها هذه المرة.

  إن الحرافيش ملحمة كبيرة (تدور حول 600 صفحة في مختلف طبعاتها) تحكي قصة آل الناجي من أول المؤسس عاشور وتمتد على مدى عشر أجيال، في عشر قصص متتابعة، وكل قصة يكون بطلها (وأحيانا قليلة جدا بطلتها) أحد أفراد العائلة، والقصة الأخيرة بطلها عاشور أيضا ولكن عاشور الحفيد هذه المرة الذي يمثل الجيل العاشر من العائلة. من خلال آل عاشور نعيش بشكل أساسي في حارة تتحرك فيها الاحداث ولكن لا يتحرك الزمان وهنا المفارقة!!

  يكتشف القارئ بسهولة تعمد نجيب محفوظ عدم تحديد الفترة التاريخية التي تدور فيها أحداث الملحمة، وذلك لجعل المكان رمزا لمستويات متعددة ومختلفة، من أول مجتمع صغير محدود إلى الإشارة لقصة الإنسانية كلها!!

  نعم القارئ يستطيع أن يكتشف بسهولة مقصد محفوظ هذا، وإن كان في رأيي أن هناك بصمات زمانية في الرواية يمكن من تتبعها أن نحصر أحداث الرواية بين أواخر القرن الثامن عشر حتى أوائل القرن العشرين، حتى لو لم يقصد محفوظ ذلك!!

  مع أن صلب الرواية كما هو واضح من عنوانها تحكي عن الظلم والعدل الذي يلحق بحياة الحرافيش الذين يشكلون الأغلبية من سكان الحارة، وفي نفس الوقت أكثر طبقاتها التي تقوم بالإنتاج ولكن حصاد عملهم يصب غالبيته العظمى لصالح القلة المالكة، التي يمثل التجار عصبها في تلك الحارة، والسلطة الحاكمة، والتي يمثلها بشكل أساسي الفتوة وعصابته. إن الحال كان دائما هو ظلم بين ومعيشة ضنك ومهينة للحرافيش، إلى أن يحدث تغير كبير، ولا أقول انقلاب، في تلك الأوضاع مع صعود عاشور الناجي لكرسي السلطة، فيصبح فتوة الحارة. فبصعوده هذا ينفك التحالف المقدس والدائم بين الثروة والسلطة، فقبله كانت مهمة الفتوة بشكل أساسي هي قمع الحرافيش بل وتحصيل الجزء الأكبر من الإتاوات منهم، ولكن مع عاشور تنقلب تلك السياسة، فيصبح العبء الأكبر من الاتاوة يقع على عاتق أصحاب الثروة، ولا يرتزق الفتوة وعصابته من الفتونة ولا يتميزون طبقيا، فعاشور يرفض هذا الوضع ويصر أن يستمر في مهنة يرتزق منها ولا يراكم أي ثروة ويرفض أن يغادر موقعه الطبقي ويفرض ذلك على رجاله أيضا، فلا تمتد أيدي أيا منهم إلى جزء ولو يسير من الاتاوات، والتي في عهده تذهب بأكملها للحرافيش وتحسين أوضاعهم وإلى مشاريع عامة تخدم كل أهل الحارة أو الفقراء منهم على وجه خاص.

مثلت السياسات العاشورية فترة ذهبية يوتوبية للحرافيش، وكانت بالطبع موضع سخط ولعن الطبقة المالكة، مع أن عاشور لم ينزع أي شيء من ملكياتهم واكتفى بأخذ الاتاوات منهم، حيث رأت الطبقة أنها خسرت أداتها القمعية وعز عليها أن يتم توجيه جزء من فائض القيمة إلى الحرافيش. لقد اكتملت أسطورة عاشور باختفائه المفاجئ وأصبح أرثه وتأويل فترة حكمه مسار صراع على طول الملحمة الممتدة بعد رحيله.

  على طول الرواية تمتد وتتمدد وتنحسر العائلة العاشورية، ويختلط فيها البطولة ونكران الذات والتقوى والمجد والشرف والكبرياء والفداء بالحقارة والنذالة والشيطنة والوضاعة والجبن والاستغلال والتسلط والخيانة، لكنها دائما موضع النظر ومحرك الأحداث الأساسي، فعبر تلك العائلة والاجيال الممتدة استعرض محفوظ تجليات واسعة ومختلفة ومتشعبة للشخصية الإنسانية، في بانوراما رائعة وبديعة وبالغة الثراء.

  لكن إذا كان يهدف محفوظ لرصد الوضع الإنساني بمختلف تجلياته، وهذا هو الأرجح، من خلال تلك الملحمة الممتدة، فإن نصيبه من النجاح بالمقارنة بهذا الهدف يظل محدودا، مثله في ذلك مثل المحاولات السابقة وحتى اللاحقة، لأن الوضع الإنساني وتجلياته المختلفة أوسع دائما من أي محاولة لحصرها، وغالبا ما تصاب تلك المحاولات، وهو ما أراه قد حدث بدرجات متفاوتة في حرافيش محفوظ، بالضياع في التيه وتضبيب الرؤية واضطراب البوصلة.

  ليس رواية سببت ضجة خطيرة مثل "أولاد حارتنا" أو شهيرة وممتدة على أجزاء وبالغة التأثير مثل الثلاثية هي الإنتاج الأعز والأقرب إلى قلب محفوظ، ولكن ملحمة الحرافيش هي التي تحتل تلك المكانة عنده طبقا لأكثر من شهادة للقريبين منه، وبالفعل فإن تلك الرواية أشادت بها حيثيات جائزة نوبل للأدب عام 1988. لقد صدرت الطبعة الأولى للرواية في عام 1977، وليس عندي معلومات حول المدى الزمني الذي استغرقته كتابتها، وإن كنت أرجح أن الكتابة فيها امتدت لأعوام، وتطورت عبر زمن ليس محدود، فقد عمل محفوظ فيها على حشد أكبر قدر من النماذج والأفكار والمشاعر والرموز.

  الحرافيش محاولة عبقرية وبديعة لكن ضعفها الرئيسي، في تقديري، أن الزمن الحضاري والثقافي فيها راكد ومتبلد، فأجواء العصور الوسطى بثباتها وتحجرها إلى حد كبير متمكنة من النفسية المحفوظية، على الأقل في تلك الرواية. فبالرغم من ثراء الاحداث وغنها بالشخصيات والنماذج إلا أن زمانها دائري، يدور حول نفسه مثل حركة دوران الدراويش الذين كانوا ينشدون في التكية التي مثلت المركز الروحي لحارة الحرافيش.  

  إنني فيما سبق أشرت بشكل مكثف وسريع إلى ملحوظتي الرئيسية على الملحمة، ولكنها مفتوحة لقراءات متعددة وواسعة، وتستحق كل رواية فيها، من الروايات العشرة التي تكونها، لمعالجة خاصة ومتفردة، وهو ما سأحول أن أحققه سواء في كتابات قادمة أو عبر فيديوهات أو كليهما، ولكن تظل الرواية من أبرز الكلاسيكيات ليست العربية فقط ولكن العالمية أيضا، ولا يجب أن تكون خارج قائمة قراءات أي مهتم بالأدب أو حتى بالفكر والثقافة بشكل عام. 

الأحد، 10 يوليو 2022

سوق العمل كهدف للعملية التعليمية!!

 سوق العمل كهدف للعملية التعليمية!!

شادي عمر الشربيني

  


  على رأس الأمور التي يتم تسويقها أنها الهدف الأول لتطوير التعليم، إن لم يعد يتم تقديمها كهدفه الأول والأخير، هو ربط العملية التعليمية بسوق العمل.

  وهذا الموضوع أثار انتباهي ولفت نظري، فتسألت ما هذا الاختزال المخل والمجنون للتعليم؟!! اختزال يعكس تمكن عقلية السوق ونفسيته من كل مستويات التفكير والتخطيط وترتيب الأوليات في مصر.

  هل يعني ذلك رفضي أن يضع التعليم في اعتباره سوق العمل ومتطلباته؟؟!!

  الإجابة قاطعة.. لا أحد يمكن أن يستبعد هذا الأمر أو يستنكره، لكن المسألة هي النظر في عملية ترتيب الأولويات ومفهوم الإنسان والمواطن في الدولة والمجتمع. أن يقدم التعليم شخص يمتلك من المهارات التقنية والفنية والادائية ما يجعله قادر على الاندماج السريع في سوق العمل وتلبية متطلباته في آن، أمر بالتأكيد لا خلاف عليه، ولكن قبل ذلك.. قبل ذلك تأتي أمور أهم بكثير تمثل رأس العملية التعليمية بل وقلبها وروحها، وهي في تقديري كالتالي:

1-           بناء شخصية سوية قادرة على التعامل الاجتماعي بشرف ونزاهة واحترام. تحب الناس وتحرص على مصالحهم وما فيه خير لهم بنفس حرصها على مصلحتها وخيرها المباشر.

2-           أن يهدف التعليم إلى يناء شخص منتمي لبلده وأمته، يعرف قضاياها وهموها، أعدائها وأصدقائها، معاركها ونضالاتها، ويدرك أهدافها القريبة والبعيدة، فيربط أهدافه الخاصة ومستقبله وتطلعاته بتلك الأهداف وبتطلعات أمته وطموحها.

3-           أن يمتلك أدوات التفكير ومناهجه الصحيحة، فيستطيع أن يفرز الجيد من السيء ويتخذ القرار السليم ويعلم ما يجب أن يتخذه في اعتباره وهو يصنع قراره وما يجب إهماله وتركه، ما يستطيع أن يؤثر فيه ويغيره، وما لا يجب إهدار وقت كبير في تعديله وتغييره.

4-           أن يكون ملم بالعلوم ومتشرب لمنطقها، فحتى ولو كان عمله واختياراته بعيدة عن العلم بتفرعاته وأدواته، إلا أن العقل العلمي هو الثمه الأساسية والأولى للفكر الحديث والمعاصر، وعبر العلم حققت وتحقق المجتمعات والدول والأمم بل والإنسانية كلها معظم طفرتها وتقدمها.

5-           اللغة.. التمكن من اللغة والحصيلة اللغوية وتذوق الأدب وفنون اللغة الأم، يقوي ثقة الإنسان بنفسه ويمكنه من القدرة على التعبير بل والتلقي، ويجعله أكثر رقيا وتحضرا وقدرة على التأثير الإيجابي والفعال في محيطه. والأكيد أن إضافة لغة أو أكثر للغة الأمم توسع من الثقافة وتعمقها وتمنح الشخص أدوات أكثر وأكبر وأسع للوصول إلى البيانات والمعلومات بل وتثري أيضا اللغة الأمم بالانفتاح وتناول ثقافات أخرى ذات عقليات وتجارب وذائقة مختلفة.

6-           الاعداد العقلي.. عملية التعليم يجب أن تهدف إلى غرس ورعاية عقلية النمو والتعليم المستمر والتجريب وعدم الخشية من الفشل، لأننا نتعلم من أخطاءنا ونكبر بتجاوزها وتصحيح المسار، والتطور والنمو والتقدم له أثمانه وأعباءه التي ندفعها بروح مملؤة بالأمل والتفاؤل والنظر إلى المستقبل وليس الانحصار في الماضي أو التعثر في الحاضر.


  هذا بعض نتاج عصفي الذهني بشأن الأهداف الأولى والرئيسية للعملية التعليمية، وبالتأكيد يمكن الإضافة لما سبق وتعديله وإحكامه بصيغ أقوى وبكلمات وعبارات أكثر وضوحا وتعبيرا، ولكنها كلها وأكثر منها بكثير يجب أن تكون له الأولوية في الهدف والتخطيط للعملية التعليمية، وتسبق بشكل حاسم ما يسمى بمنح المتخرج من تلك العملية أدوات الالتحاق بسوق العمل وتلبية متطلباته. فالراجح أن تحقيق الأهداف السابقة حتى بدون تحقيق الهدف المتعلق بسوق العمل هو في حد ذاته كفيل بجعل تلك المسألة ثانوية وفي متناول يد كل من يحقق ويتحقق فيه كل ما سبق من أهداف ولو بدرجات.

  كما أن سيادة الاقتصاد الخدمي والريعي والتابع في مصر، يحمل شبهة واسعة حول هدف ما يسمى بالتمكن من أدوات سوق العمل، فغالبًا نحن نقصد أدوات خاصة بالفندقة والتخديم والترفيه والسمسرة و/أو العمل في ذيل العملية الإنتاجية ومن موقع التابع والمنفذ لاستراتيجيات وخطط الخارج!!

الثلاثاء، 15 فبراير 2022

فلسطين قضية مصرية.. العودة إلى البديهيات

 فلسطين قضية مصرية.. العودة إلى 

البديهيات

شادي عمر الشربيني




  عبر خطوط الزمن وتعرجاته بل وانقلاباته، كثيرا ما تضيع البوصلة من الأمم، فتدخل في تيه ممتد، ولكن هذا التيه ليس بلا نهاية، فإما أن تستعيد الأمة بوصلتها، وتشق الطريق الذي يلائم تاريخها ومستقبلها في آن، أو تضيع بلا عودة في صحراء هذا التيه.. فتموت عطشا وهي تسعى وراء سراب، وتخرج من التاريخ مرة أخرى وأخيرة!!  

  ابتداء من سبعينيات القرن الماضي بدأ الطريق يضيع من مصر، بعد أن امتلكت البوصلة وراحت في اتجاهها تشق طريقها مكافحة ومناضلة عبر خمسينات وستينات ذلك القرن ذاته. وعلى رأس العملية الكبرى لتزوير العقل المصري وإدخاله في حالة ضبابية وتحطيم بوصلته، كان تفكيك ثم تدمير ارتباط مصر بالقضية الفلسطينية، فأصبح يتم تصوير تلك القضية وكأنها عبأ قاتل عليها، وليس أن أمنها القومي المباشر مرتبط بتحرير فلسطين!! وتم وضع مصلحة مصر في العلاقة المباشرة بل والتعاون مع الكيان الإسرائيلي، والتغطية والتعمية على أن هذا الكيان لم ولن يرى مصر سوى أكبر خطر عليه مهما فعلت، وسعى ويسعى وسيسعى دائمًا إلى ابقاءها ضعيفة ومتخلفة ومنهكة بل وتفكيكها وأنهاءها وجوديًا!!

1-         قطعية عدالة القضية الفلسطينية :

  وفي سبيل استعادة البوصلة، مضطرين للتذكير بما هو واضح وبديهي إلى أقصى الحدود، وعلى رأسه أنه ليس هناك قضية معاصرة قاطعة وحاسمة في عدالتها مثل القضية الفلسطينية. القضية واضحة ماثلة أمامنا وتؤكد نفسها كل يوم، قضية شعب يتم اقتلاعه من أرضه التي يضرب فيها بجذوره من آلاف السنين، لصالح أشتات مجمعة من مختلف أنحاء العالم، تحت لافتة دعوة أسطورية بلا أي سند تاريخي أو حقوقي. مع صبيحة كل يوم يتمدد سرطان الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين ويعمل على مسخ هوية البلدات والقرى والأراضي الفلسطينية عامة. الشعب الفلسطيني أصبح يتم معاملته في بلده ليس كأنهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة أو حتى الرابعة، بل على أنه غير مرغوب فيهم على أرضهم!! تغلي فلسطين المحتلة بالمواجهات في غزة والضفة الغربية بل وتمتد لتصل إلى أراضي 1948، ونكون نحن في مصر في دهشة واستغراب من الانفجار الذي يبدوا لنا مفاجئا للمعارك والقصف المتبادل، وذلك لأن أعلامنا العتيد، بل والاعلام الإقليمي والعالمي، أنقطع عن رواية الإهانة والتعذيب والتنكيل اليومي بل والتصفية الممنهجة التي تحدث للشعب الفلسطيني على يد المحتل الإسرائيلي. يتم قطع وفصل الشعب المصري عن قضيته الفلسطينية عبر السكوت والتعمية عما يحدث في تلك الأرض العظيمة من معاناة وتنكيل وتضييق بل وترصد وقتل في مقابل صمود ومقاومة فوق الباسلة للشعب العربي الفلسطيني، وذلك لعزل فلسطين عن عمقها المصري، وعزل مصر عن عمقها الفلسطيني العربي، فيسهل محاصرة والقضاء على الطرفين معًا.. 

 

 
  إن الدعاوي التي أقيم على أساسها الكيان الإسرائيلي متهاوية وساقطة علميا وتاريخيا، بل وحتى دينيا. فقبل أن يكون تلك الاشتات التي يتم استدعاؤها من أطراف الأرض إلى فلسطين المحتلة ليس لهم أي صلة بالتاريخ الديني للمجموعات اليهودية في فلسطين، ذلك التاريخ الذي سقط معظمه أركيولوجيا ولم يصمد أمام البحث العلمي والأثري، فإنه في كلا من المسيحية والإسلام قد سقطت دعوى شعب الله المختار، ولم يعد هناك أي محرض أو مبرر لاهوتي لما يسمى بعودة اليهود إلى فلسطين، بل والأكثر من ذلك فإنه حتى على المستوى الديانة الإبراهيمية الأولى، اليهودية ذاتها، فإن تلك العودة مرتبطة بمجيء الماسيا المنتظر (المشيح أو هامشيخ أو المسيح)، الذي يعتبر ظهوره، داخل المنظومة اليهودية، هو الإشارة الإلهية  لتلك العودة، وبدونه فإنها هرطقة بل وخروج على الأمر الإلهي وقضائه!!  

  إن الدواعي الحقيقية لإنشاء الكيان الإسرائيلي على رأسها الهدف الاستعماري العتيد لفصل مشرق العالم العربي عن مغربه، أو بشكل أكثر دقة الفصل بين مصر بالذات وذلك المشرق لمنع قيام دولة الوحدة، تلك الدولة التي عند قيامها ستملك المقومات الحقيقية للحفاظ على ثروات ومصالح شعوب المنطقة وتقطع دابر الاستغلال والنهب والاختراق الغربي. أما الهدف الثاني هو حل ما يسمى بالمسألة اليهودية التي بدأت تنفجر في أوروبا منذ القرن التاسع عشر، والتخلص من الفائض اليهودي فيها ليقيم في قلب الأمة العربية كيان عميل للغرب، يخدم أهدافه في المنطقة ويكون مخلب يبطش به في يده. إن الهدف من هذا الكيان هو المنطقة بأكملها والشعب العربي بأكمله، ولكن أهلنا في فلسطين هم الذين يدفعون الثمن المباشر. لذلك فإن قواعد الإنسانية والتي على رأسها العدل، تحتم على مصر دولة وشعب التصدي لذلك الكيان ودعم الشعب العربي الفلسطيني في كفاحه ونضاله، فذلك في صلب الأمن القومي المصري ذاته.

2-         مصر.. من نهضة المواجهة إلى سقوط الانسحاب:

  هذا أولاً، أما ثانيا فإنه في معرض الحملات الدعائية لتبرير خروج مصر وانسحابها من معركة التصدي للكيان الإسرائيلي، هو التلويك المستمر لمقولة أن مصر لا قبل لها بمواجهة إسرائيل، فهي لا تملك إمكانات مواجهة إسرائيل القوية المتقدمة والتي تقف معها وبجانبها ومن ورائها أكبر قوة عظمي على الأرض، وهي الولايات المتحدة الامريكية.



  إنه فضلا عن الروح الانهزامية الضئيلة التي تروج لمثل هذا الكلام، وصاحبة مقولة   
 أن 99% من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة، فإنها تغفل أحد أكبر محركات التاريخ وصعود الأمم، وهو التحدي والاستجابة.  إن الأمم تقوم وتصعد في ضوء قبولها للتحديات الكبرى والاستجابة لها بحشد الإمكانيات وصنع التقدم وحرق المراحل نحو المستقبل وحيازة القوة بعزيمة واصرار وروح مناضل مكافح. في ظل استجابة مصر للتحدي الإسرائيلي سعت لبناء قاعدة صناعية واسعة لتعويض فارق التقدم بينها وبين الغرب والتصدي للصهيونية، سعت لبناء جيش قوي حديث متكامل وانطلقت في تصنيع مختلف الأسلحة والعتاد العسكري، حتى عندما كانت النكسة في 67، والذي يصر كثيرون على تسميتها بالهزيمة ولا هزيمة لمن يقاوم ويصمد، فإنه في أتون تلك المعركة تم إعادة بناء الجيش الوطني على أمتن الأسس الحديثة والمتقدمة، واكتسب في نيران المعركة الممتدة من يونيو إلى أكتوبر 73خبرات قتالية وعسكرية هجومية ودفاعية هائلة، عوضت الغياب الطويل للمنظومة القتالية المصرية عن الصراع الإقليمي والعالمي، مما جعلها غائبة عن المعنى الحقيقي للصراع الحديث بكل مستجداته وأبعاده الشاملة، والصراع ضد الكيان الإسرائيلي كان هو الميدان الذي عوضت من خلاله مصر ذلك الخروج الطويل من التاريخ والغياب عن الصراع الشرس على المصير.

  الاستجابة لم تكن على المستوى الداخلي والعسكري فقط، بل إن ذلك لم يكن ممكن بدون سياسية خارجية نشطة ومناضلة على مستوى الإقليم والعالم الثالث والثاني وأفريقيا واسيا وفي المنظمات الدولية المختلفة. استطاعت مصر من خلال تلك السياسة النشطة المكافحة بناء جبهة واسعة بعرض أفريقيا وأسيا وأكثر من نصف أوروبا وشعوب أمريكا اللاتينية مؤيدة لكفاح الشعب الفلسطيني ولموقف مصر العادل في مواجهة كيان الاغتصاب والعدوان الإسرائيلي. وهكذا كانت القاهرة في ذلك الوقت عاصمة العالم الثالث وقبلة المناضلين والشرفاء على مستوى العالم، ونموذج تتعلق به كل الشعوب التي تسعى للتحرر والحصول على حقها في المستقبل.


  إن مصر العربية هي مصر القائدة في إقليمها، ولا نفوذ ولا ثقل بل ولا كلمة لمصر في هذا العالم إلا من خلال وبقيادتها لهذا الإقليم، ولا عروبة وقيادة لمصر بدون تصديها للكيان الإسرائيلي ومساندة كفاح ونضال الشعب الفلسطيني الحر. منذ أن سلمنا 99% من أوراق اللعبة لليد الأمريكية وأنطفأ النور المصري، دخلنا في فلك التبعية، وفككنا قواعد التقدم والتصنيع في الداخل، وانكمشت قدراتنا العسكرية والقتالية نتيجة للغياب مجددًا عن الصراع والانكفاء للداخل. تفشى الفساد والانحطاط في المجتمع، راحت تنكمش يوما بعد يوم قيم الرجولة والثبات والشرف والفروسية والتضامن لصالح النهب والاناملية والسطحية والخنوثة والدونية والاستسهال والسطحية. وهكذا فبخروج مصر خسرت أكبر مقومات ومحفزات تقدمها وصعودها وتضامنها وسلامها الاجتماعي الداخلي.

  يروج أنصار نظرية خروج مصر من المواجهة مع الكيان الإسرائيلي وتقديم التنازل تلو التنازل له، أن مصر تعبت وأرهقت من الحروب ويجب أن تتفادى الدخول في أي حرب جديدة. ولكن ما يغفله هؤلاء هو أولا من يخشى الحرب ويهرب منها هو من قبل بهزيمته مقدما وخضع ويخضع وسيخضع لابتزاز لا يتوقف ولا ينتهي، وثانيا أن خلال كل المواجهات العسكرية التي خاضتها مصر ضد الكيان الإسرائيلي، كان الكيان الإسرائيلي هو المعتدي ولم نكن نحن المهاجمين أو البادئين، لقد كنا دائما نصد العدوان، حتى حرب الاستنزاف و73، لم تكن سوى لرفض إسرائيل قرارات مجلس الأمن والمنظمات الدولية للانسحاب من الأراضي التي احتلتها في عدوان يونيو 1967. مواجهة الكيان الإسرائيلي لا تعني الخوض في مواجهة عسكرية معه لا تتوقف، بل المواجهة العسكرية ليست سوى جوالات محدودة في سياق المواجهة الشاملة، وقد كان الإسرائيلي البادئ بها دائما، وعبد الناصر نفسه صرح أكثر من مرة وفي أحاديث صحفية أنه لا يهدف من المواجهة العسكرية سوى استرداد أرض 67 مع عدم الاخلال بأي حق من الحقوق الفلسطينية، بل إنه فتح الباب واسعا لإمكان تحقيق هذا الهدف سياسيا، فهو كما قال لا يريد أن يظل الاقتصاد المصري اقتصاد حرب كما أصبح بعد عدوان يونيو. لكن المروجين للانهزامية والخضوع والتبعية يربطون دائما بين الحرب كصراع العسكري ومواجهة الكيان الإسرائيلي.


  في ظل المواجهة مع الكيان الإسرائيلي كانت مصر المتوثبة المتقدمة المنتبهة النشيطة المتحركة، مصر التي تسعى لبناء دولة الوحدة لعدل ميزان القوة في مواجهة الصهيونية والامبريالية. ولم يترافق خروج مصر من هذا الصراع سوى الخمود والغيبوبة والسبات الطويل الذي لا يقظة منه إلا بالعودة إلى ساحة المواجهة.

3-          الصهيونية لن تنظر إلى مصر إلا كعدو:   

  أما ثالثا، فإنه يتم الترويج أن إسرائيل لا يمكن أن تكون فقط صديقا لمصر، بل أنها ستكون أكبر داعم ومساعد لها، فاللوبي الصهيوني هو الطريق لفتح أبواب واشنطن، كما أن التكنولوجيا الإسرائيلية المتقدمة سنستفيد منها، هذا غير المشاريع الشرق الأوسطية المربحة التي يمكن أن نشارك فيها إسرائيل وتكون وسيلة جذب لرؤوس الأموال وتنشيط الاستثمار!!

  إن الذين يروجون لمثل هذا الكلام، وها قد مضى حوالي 40 سنة من ما يسمى بالسلام والعلاقات والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي كافية لكي نلمس بأيدينا كذب وعبثية هذه الأوهام، ينسون أو يريدونا أن ننسى أن العداء لمصر كامن في قلب العقيدة الصهيونية، عداء يشكل مدماك أول وأساسي في تلك العقيدة وزواله هو زوال للعقيدة نفسها. إن مصر مرتبطة أساسا في التاريخ والفكر اليهودي بالفرعون الذي يضطهد الشعب العبراني ويسخره ويسومه سوء العذاب، فمصر تمثل الشر والشرير في تلك الرؤية وذلك التاريخ. ثم إن الفكر الإسرائيلي يعلم جيدا أن العروبة متمكنة ومعجونة بوجدان الشعب المصري، وأن مهما كانت الدرجة التي يصل إليها أي تطبيع مع هيئات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية في مصر، فإنه سيظل قشرة رقيقة على السطح ويستحيل اختراق وجدان الشعب المصري العروبي. من الشهادات الحديثة على ذلك ما جاء في كتاب "العاقل تاريخ مختصر للنوع البشري" الصادر في 2014 للكاتب الإسرائيلي يوفال نوح هراري، فنقرأ في ص 242 من الكتاب الفقرة التالية "حدثت عملية مماثلة في الإمبراطورية العربية. فعندما تأسست في القرن السابع الميلادي، قامت على انقسام حاد بين النخبة العربية المسلمة الحاكمة وبين الخاضعين من المصريين، والسوريين، والإيرانيين، والبربر، الذين لم يكونوا عرباً ولا مسلمين. تبنى العديد من الخاضعين للإمبراطورية تدريجياً العقيدة الإسلامية، واللغة العربية، وثقافة إمبراطورية هجينة. نظرت النخبة العربية القديمة إلى هؤلاء بعداء عميق، خوفا من فقدان مكانتها وهويتها الفريدة. ثم طالب المتحولون المحبطون بنصيب متساو داخل الإمبراطورية وفي عالم الإسلام، وفي النهاية وجدوا طريقهم. اعتٌبر المصريون والسوريون وشعوب بلاد ما بين النهرين بشكل متزايد "عربا"." ويختم الفقرة "كان النجاح الكبير للمشروع الإمبريالي العربي هو أن الثقافة الإمبريالية التي أنشأها تبنتها العديد من الشعوب الغير عربية، التي استمرت في دعمها وتطويرها ونشرها حتى بعد انهيار الإمبراطورية الأصلية وفقدان العرب سلطتهم كمجموعة عرقية.". وفي صفحة 234 من الكتاب نفسه يذكر هراري "ويتكلم المصريون الحاليون العربية، ويفكرون في أنفسهم كعرب، ويرتبطون بكل إخلاص بالإمبراطورية العربية". وما سبق دليل حديث أخر على فهم الإسرائيلي لتجذر العروبة في نفوس المصريين. إن مذكرات سفراء إسرائيل في مصر كاشفة عن مدى العزلة والإحباط الذي عانوه طوال فترة إقامتهم في مصر، فالعقل الإسرائيلي والغربي عموما يدرك مدى عروبة مصر.




  ما سبق يسلط المزيد من الضوء على أن الإسرائيلي كان ومازال وسيظل يرى مصر  
 كعدو، وما يسمى بالسلام معها هو زائل وعابر، وهو ليس سوى جزء من الإستراتيجية الصهيوغربية لتقسيم الجبهة العربية وتحييد مصر مؤقتا للتفرغ للعدوان والقضم والتنكيل بأطراف عربية أخرى، حتى عندما تحين لحظة المواجهة السافرة والمباشرة مع مصر، التي يتم بث سموم التطبيع في عروقها وقتل روحها وتصفية دورها وزرع بذرور الفرقة والانشقاق في جنابتاها، لا تجد مصر أي طرف صديق أو حليف لها في تلك المواجهة !!الآتية لا ريب   

4-         الدور المصري وضبط الساحة الفلسطينية:

  إن الدور المصري في فلسطين يتم استدعاؤه الآن، في أفضل الأحوال، كوسيط بين المنظمات والهيئات الفلسطينية المختلفة والكيان الإسرائيلي، هذا إن لم يكن يتم صبه في أحيان كثيرة أخرى في جانب الكيان الإسرائيلي بشكل كامل. إن ما يحدث نتيجة مباشرة لاتفاقية السلام المذل المسماة بكامب ديفيد، وبسبب الرضوخ المتواصل لقيادات الدولة المصرية للابتزاز الصهيوأمريكي. ذلك الشكل من الحضور جعل الصلة بين الدولة المصرية والشعب الفلسطيني أوهى من خيوط العنكبوت، مما يضعف الحضور المصري في القضية الفلسطينية إلى درجة العدم.

  ذلك الضعف والتهالك المذري للدور المصري في فلسطين يخلق حالة فراغ موحش على الساحة الفلسطينية، تسعى وتتقدم لملئه قوى إقليمية ودولية ليست بالضرورة صديقة لمصر. إن الساحة الفلسطينية مفتوحة بشكل متزايد على التأثير الإيراني والتركي والقطري والإماراتي وغيرهم، وفي ظل تحطم ما تبقى من قوى التيار القومي عبر تدمير العراق وليبيا وسوريا، يزداد ويتوغل تواجد قوى غريبة في الساحة الفلسطينية التي هي الحدود المباشرة لمصر. ولست هنا في معرض استعراض مدى تواجد وتأثير تلك القوى وفي أي خانة يصب تواجدها ولصالح أو ضد مصر هذا التواجد، ولكن ما أريد التنبيه عليه أنه، وقبل أي شيء، فليس على الدولة المصرية سوى أن تلوم نفسها على هذه التدخلات المختلفة الغير مضبوطة وغير آمنة في تلك القضية التي تشتعل على حدودها مباشرة وتشكل أكبر هاجس وقلق بل وخطر على أمنها القومي، لأن غيابها وخروجها من جبهة مواجهة الكيان الإسرائيلي واقامتها علاقات كاملة والارتباط معه بشبكة من التعهدات والالتزامات غير مكشوفة كلها حتى الآن، هو الذي صفى كل تأثيرها وتواجدها تقريبا على الساحة الفلسطينية، ويفتح تلك الساحة لتأثيرات واسعة مختلفة ومتضاربة، الأرجح أنها في أغلبها مضرة بمصر وتخصم من دورها ومكانتها بل وتأثيرها ومكانها ذاته إلى الحضيض.


  إنني من أول المعترفين أن القضية الفلسطينية كانت منذ وقت طويل طويل ساحة للمزايدات من أطراف مختلفة، وغالبا ما كانت تلك المزايدات موجهة ضد مصر، لكن مصر كان في مقدورها دائما قمع تلك المزايدات أو تحجيمها عندما كانت في طليعة المواجهة مع الكيان الإسرائيلي ودعم كفاح ونضال وتحرر الشعب العربي الفلسطيني. أما بعد الخروج المذل من تلك المواجهة، أصبح استحضار الدور المصري في القضية الفلسطينية يتم حصريا تحت المظلة الصهيوأمريكية، لذلك أنكمش التأثير المصري على ساحة الفلسطينية حتى لامس حدود الصفر، وجعل تلك الساحة مفتوحة لعربدة أدوار مختلفة تستغل وتتلاعب بشكل مثير لكل أشكال القلق والتوجس.  

  السبيل الوحيد لاستعادة دور مصر وثقلها العروبي والإقليمي والعالمي، بل والسبيل للدفاع عن أمنها القومي مباشرة بشكل حقيقي وفعال هو الخروج من تيه كامب ديفيد واستعادة دورها الرائد المناضل المكافح في مواجهة عدوان الكيان الإسرائيلي والدعم المباشر لنضال وكفاح الشعب الفلسطيني. إن الدور الوساطة لا يليق بمصر في هذه القضية بالذات، بل إن هذا الدور خطر وتهديد مباشر وقائم ومستمر لأمنها القومي وسلامتها على مستوى الجبهة الداخلية قبل الخارجية. فلنترك مسألة الوساطات لغيرنا، ولنستعد دورنا الطليعي، فذلك ما هو جدير بمصر وشعبها العظيم، ذلك ما يخدم أمن ومصالح مصر مباشرة على المستوى الاستراتيجي والتاريخي، وهو ما يتبقى لمصر.

                                                      ............................

 حاولت في هذا المقال تسليط الضوء على أربع نقاط رئيسية تكشف عن أن قضية فلسطين هي قضية مصرية قبل حتى أن تكون فلسطينية. الكتابة والشرح والتحليل والاستفاضة حول هذه المسألة يطول ويحتاج إلى أكثر من مقالة بل وربما أكثر من كتاب، فلم أقدم سوى مساهمة متواضعة للتصدي لسرطان متفشي في الجسد المصري، سرطان فكري ومعنوي يطول بأكثر مما يطول أجيال ناشئة في مصر، تم عزلها عن طبيعة الصراع ضد الصهيونية والكيان الإسرائيلي وتجهليها عن عمد بأسباب وجذور هذا الصراع الطويلة والممتدة والمرتبطة بتاريخ ومستقبل مصر بل بوجودها ذاته. فإلى جانب التجهيل والإخفاء والتعمية كان يتم بس سموم التطبيع والحديث عن فوائد الكيان الإسرائيلي والتعامل بل والتعاون معه!!

  هذه العملية المزدوجة خلقت تشوهات بالغة الخطورة في عقل ووجدان مصر، وفتحت ومازالت تفتح الطريق لانتكاسات وانهيارات لا تتوقف ولن تتوقف إلا بتصفية مصر المكانة بل والمكان والشعب ذاته. فواجب على كل الاحرار الوطنيين، وبخاصة المثقفين، إن يتصدوا لهذا السرطان، ويحقنون شرايين هذا الوطن بالدواء والعلاج لحصر تفشيه وحصار امتداداه تمهيد للقضاء عليه والخلاص منه. إن على المثقفين، وبخاصة مثقفي التيار القومي الوحدوي وطليعته وكوادره، فرض عين الانخراط الكامل في تلك المعركة الفكرية الروحية الخطيرة، واستدعاء الوعي والتنبيه وبث اليقظة، حتى وإن كان ذلك يتضمن في جزء كبير منه إعادة سرد البديهيات وتسليط الضوء على الشمس الساطعة في منتصف النهار!!