الصفحات

الجمعة، 1 سبتمبر 2023

زكي نجيب محمود.. تعريف ومدخل عام مع إشارة خاصة لكتاب «تجديد الفكر العربي»

زكي نجيب محمود.. تعريف ومدخل عام مع إشارة خاصة لكتاب «تجديد الفكر العربي»

                                        شادي عمر الشربيني

  


  تتفق الأغلبية أن زكي نجيب محمود واحد من أبرز فلاسفة العرب ومفكريهم في القرن العشرين، وأحد رُوَّاد الفلسفة الوضعية المنطقية*. من المميزات الرئيسية لكتابات والإنتاج الفكري بشكل لنجيب محمود أنها اشتبكت، بعمق وتبصر، مع قضايا الفكر الفلسفي العالمي المعاصر، التي تتسم بالكثير من التجريد والشمولية، وفي الوقت نفسه اهتمت وغاصت وتجولت في همة وتفاني المفكر الحامل لهموم وقضايا أمته، في الإشكاليات والأزمات والأعاصير التي تعصف بالعقل العربي قي زماننا وتضغط على النفس العربية بقوة وإلحاح عند مفترق طرق وجودية. وهكذا فإنه من ذلك النوع من المفكرين الذين يروقون لي شخصيا، بل ويشكل مثال ومصدر ضوء كاشف أهتدي به في مساري الفكري والثقافي وما أسعى أن أؤديه لأمتي..

  إن نجيب محمود بإنتاجه الفكري الغزير والمتنوع والمتميز بتماسكه وخوضه في قضايا محورية وأساسية في الفكر والحياة المعاصرة بشكل عام، جعل من نفسه كاتب ومفكر يستحيل تجاهله لكل من يقترب، أو يحاول أن يقترب، من تلك القضايا بل ومن مجمل الوضع العربي المعاصر. فالاطلاع على أطروحاته بشأن تلك القضايا، فضلا عن مناقشتها والوقوف أمامها علما ودرسا وفحصا وتحليلا، يبقى لا بديل عنه لأي مثقف جاد يسعى إلى أن يكون مخلصا في مهمته وللقضايا التي يقترب منها ويسهم في تناولها. إن محمود مفكر من ذلك النوع الذي حتى لو اختلفت كليا مع أطروحاته، فإنك لا تملك في الوقت نفسه إلا الوقوف أمامها.. وطويلا..     

  قد تكون اللغة العربية التي كتب بها المفكر المصري زكي نجيب محمود، واحدة من أنقى ما كتب به أي مفكر عربي على الإطلاق. ومن هنا لم يكن غريباً أن يصفه عباس محمود العقاد بأنه «فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة؛ فهو مفكِّرٌ يصوغ فكره أدبًا، وأديبٌ يجعل من أدبه فلسفة.» ومع هذا كان صاحب "مجتمع جديد أو الكارثة" و"تجديد الفكر العربي"، واحداً من أبعد الكتاب العرب عن اللجوء إلى ما يسمى "حديث الذات". ومن هنا نراه حتى حين أراد أن يكتب سيرته في مرحلة متقدمة من حياته، يستعير من أستاذه طه حسين استخدامه ضمير الغائب في روايته تفاصيل تلك الحياة، بل حتى مجريات فكره فيسمي بطله، كما يفعل طه حسين "صاحبنا". بل هو لم يكتفِ بهذا، حيث نجده حين أراد وبشكل مبكر أن يعطي صورة ما لأفكاره وتطلعاته الاجتماعية، يلجأ في كتاب صغير له عنوانه "أرض الأحلام" إلى استعراض وتحليل أربعة من تلك الكتب العالمية التي تتعامل مع مفاهيم المدينة الفاضلة، واصفاً من خلالها الصورة المثالية للمجتمع الذي سيشغل باله وكتاباته لاحقاً ويكرس له عدداً كبيراً من كتبه الأساسية.

 

ملامح من سيرته الحياتية والعملية:


  وُلِد زكي نجيب محمود في قرية «ميت الخولي عبد الله» بمحافظة دمياط في أول فبراير سنة ١٩٠٥م، والتحق بكُتَّاب القرية، تعلم في مدرسة السلطان مصطفى الاولية في ميدان السيدة زينب في القاهرة، وعندما نُقِل والده إلى وظيفةٍ بحكومة السودان أكمَلَ تعليمَه في المرحلة الابتدائية  والثانوية بمدرسة «كلية جوردون» في الخرطوم، وبعد عودته إلى مصر أكمَلَ المرحلةَ الثانوية، ثم تخرَّجَ في مدرسة المُعلمين العليا بالقسم الأدبي سنة ١٩٣٠م، فتخرج وعمل بالتدريس حتى سنة 1943، وفي سنة ١٩٤٤م أُرسِل في بعثةٍ إلى إنجلترا حصل خلالها على «بكالوريوس الشرفية من الطبقة الأولى» في الفلسفة من جامعة لندن؛ لينال بعدَها مباشَرةً درجةَ الدكتوراه في الفلسفة من كلية الملك بلندن سنة ١٩٤٧م، وكانت أطروحته بعنوان «الجبر الذاتي»، وقد ترجمها تلميذه الدكتور إمام عبد الفتاح إلى العربية.

  عين مستشارًا ثقافيًا للسفارة المصرية في واشنطن، وعضوًا في المجلس القومي للثقافة. بعد عودته إلى مصر التحق بهيئة التدريس في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، وظل بها حتى أحيل على التقاعد سنة 1965م، وعمل بها أستاذًا متفرغًا، ثم سافر إلى الكويت سنة 1968م، حيث عمل أستاذًا للفلسفة بجامعة الكويت لمدة خمس سنوات متصلة.

  إلى جانب عمله الأكاديمي انتدب سنة 1953م للعمل في وزارة الإرشاد القومي (الثقافة) وهي الوزارة التي أنشأتها حكومة الثورة، ثم سافر بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام نفسه، وعمل أستاذًا زائرًا في جامعة كولومبيا بولاية كارولينا الجنوبية، وبعد أن أمضى بها الفصل الدراسي الأول انتقل إلى التدريس بجامعة بولمان بولاية واشنطن في الفصل الدراسي الثاني، ثم عمل ملحقًا ثقافيًا بالسفارة المصرية بواشنطن بين عامي (1954-1955م).

  في سنة 1965م عهدت إليه وزارة الإرشاد القومي (الثقافة) في عهد وزيرها محمد عبد القادر حاتم بإنشاء مجلة فكرية رصينة تعنى بالتيارات الفكرية والفلسفية المعاصرة، فأصدر مجلة (الفكر المعاصر) ورأس تحريرها وقام عليها خير قيام، ودعا كبار رجال الفكر في مصر للكتابة فيها، وشارك هو فيها بمقال شهري ثابت تحت عنوان (تيارات فلسفية)، وظل يرأس تحريرها حتى سافر إلى الكويت للعمل في جامعتها، وبعد عودته من الكويت انضم إلى الأسرة الأدبية بجريدة الأهرام سنة 1973م، وشارك بمقاله الأسبوعي الذي كان ينشره على صفحاتها كل ثلاثاء، وبلغ من اهتمام الصحافة بهذه المقالة الرصينة أن خمس صحف عربية كانت تنشر هذا المقال في نفس يوم صدوره بالقاهرة.

  انضمَّ إلى لجنةِ التأليف والترجمة والنشر ليشترك مع أحمد أمين في إصدارِ سلسلةٍ من الكتب الخاصة بالفلسفة وتاريخ الآداب بأسلوبٍ واضحٍ سهلٍ يتلقَّاه المثقفُ العام.

  حصَد العديدَ من الجوائز والأوسمة على أعماله، منها: جائزة التفوق الأدبي من وزارة المعارف (التربية والتعليم الآن) عام ١٩٣٩م عن كتابه «أرض الأحلام»، وجائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة سنة ١٩٦٠م عن كتابه «نحو فلسفة عِلمية»، ووسام الفنون والآداب من الطبقة الأولى عام ١٩٦٠م، وجائزة الدولة التقديرية في الأدب عام ١٩٧٥م وقد سلّمه إيّاها الأستاذ بسام مؤنس حسن، ووسام الجمهورية من الطبقة الأولى عام ١٩٧٥م، وجائزة الثقافة العربية من جامعة الدول العربية عام ١٩٨٤م، وجائزة سلطان بن علي العويس عام ١٩٩١م. كما منحَتْه الجامعة الأمريكية بالقاهرة درجةَ الدكتوراه الفخرية سنة ١٩٨٥م.

   كان الدكتور زكي نجيب المدشّن الأول لتيار الوضعية المنطقية في مصر والعالم العربي والإسلامي، وأصدر عشرات المؤلفات في شتى حقول المعرفة، تراوحت بين الفكر والثقافة وتاريخ الفلسفة والمنطق والترجمة، من بينها:

·      نظرية المعرفة

·      المنطق الوضعي

·      خرافة الميتافيزيقا (الطبعة الأولى) ثم أعيد تسميته في الطبعات اللاحقة إلى موقف من الميتافيزيقا.

·      نحو فلسفة علمية

·      حياة الفكر في العالم الجديد

·      برتراند راسل

·      ديفيد هيوم

      وغيرها من المؤلفات التي يمكن وصفها بأنها مثلت مرحلة التأسيسي النظري والبحث في الفكر الغربي، قبل أن يتوجه جهده نحو البحث في الفكر العربي الإسلامي، وذلك عبر عدد من المؤلفات من بينها:

·      قشور ولباب

·      تجديد الفكر العربي

·      المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

·      ثقافتنا في مواجهة العصر

·      في حياتنا العقلية

·      مجتمع جديد أو الكارثة

·      رؤية إسلامية

·      في تحديث الثقافة العربية

·      قيم من التراث

·      بذور وجذور

 

كتاب «تجديد الفكر العربي»:


  يمثل كتاب «تجديد الفكر العربي» مرحلة مهمة في التحول الفكري لدى الدكتور زكي نجيب مجمود، الذي درس الفلسفة الحديثة في أوروبا وتأثر بمناهجها ومدارسها السائدة آنذاك، حتى بدا له أن الحلول الفكرية لمشكلات الواقع العربي لا يمكن أن تتعدى حيز تلك المذاهب الفكرية والفلسفية، ولم يكن يرى في التراث العربي عموماً، قبل هذا الكتاب أكثر من كونه نوعاً من الخرافة الميتافيزيقية التي لا تصمد أمام يستدعيه الوضعية المنطقية الصارم، لكن عودته إلى التراث هنا، وجهده الواضح نحو أعادة المراجعة على ضوء مشكلات العصر تلخصان حتى بالنسبة لزكي نجيب محمود نفسه، أهمية معاودة للسؤال الحيوي حول ذلك التراث، وإعادة الاعتبار إليه وتخليصه من الصورة النمطية المحصورة بين حدّي الغيب والخرافة.

  فما بين فكرة التقديس التام للماضي، او دعوات القطيعة النهائية معه، ثمة طريق ثالث يمكن أن يحل هذه الإشكالية، إنه الاختبار التجريبي لمدى قدرة هذا الماضي على الحضور في الواقع تحققاً ممكناً، وذلك ما يضعه الكاتب في «تجديد الفكر العربي» أساساً علمياً لنتواصل مع الفكر العربي وتجديده بما يقتضيه راهن الحال. هو ينظر إلى الثقافة العربية بمنظور أوسع من حيزها الجمالي الفني أو الأدبي، ليؤكد على القيم التي تنتج حياة أبعد من أن تكون معزولة في اللفظ أو البلاغة، أو مجردة من نموذجها الفكري، وهي بهذا المعنى رؤيا وسلوك متلازمان. ومن خلال تأكيد زكي نجيب محمود على اقتران العلم بالعمل، فإن جدل الثقافة / الحياة لن يكون هنا سوى النتيجة لتحقيق معنى التجديد ببعده الجوهري وبارتباطه العضوي بشرطه التاريخي وبلحظته الراهنة في الوقت نفسه، ولن يكون التجديد هنا ذو نزعة (ثورية) تعني تقويضاً شاملاً لما كان ولا نسفاً أو اقتلاعاً للجذور، بل رسم خريطة أخرى (جديدة) على الأرض ذاتها.

  وإذا كان زكي نجيب محمود فد تمسك بمنهج الوضعية المنطقية في مجمل بحوثه الفكرية، فإنه لم يجعل من هذا المنهج عقيدة محضة. هو تمسك وإن اقترب من التبني لكنه لم يصل به إلى مرحلة التبشير والدعوة إلا في الإطار البحثي العلمي، فبقيت الوضعية المنطقية في حدود المنهج. ومن هنا تأتي أهمية إعادة بحثه في التراث الفكري العربي، فالتراث الذي سيبدو ملغزاً وملتبساً ومتداخلاً، ويغتزل بنوع من النشاط الغيبي ليس إلا، سيعني حضوره في الوضعية المنطقية صورة أخرى تكسر الإطار التقليدي المتوارث والمختزل، ليبدو عابراً للأزمنة، وسيكون مجاله الحيوي مفتوحا على الاحتمالات وقابلاً للمراجعة باستمرار.

  كما يكتس الكتاب أهمية تأتي هذه المرة من كون المشكلات التي يناقشها هي نفسها المشكلات التي تعترض طريق التجديد والنهضة عموماً منذ بدأ السؤال عن أهميتهما معاً. وهذه المشكلات وإن بدت متباينة في الصيغة والمعطى والتعبير، لكنها بقيت واحدة في الجوهر، لذلك فإن مقترحات هذا الكتاب وأسئلته تبقى قائمة ومشروعة طالما أن لا شيء تغير عن أصل تلك المشكلات.

  إنه من الملاحظ أن الطبعة الأولى من هذا الكتاب صدرت في سنة 1971، أي أن من الممكن الترجيح أن الكثير من فصول هذا الكتاب، إن لم يكن كلها، كتبت غالباً عقب نكسة 67 وما أعقبها من أزمة خطيرة ألمت بالوجدان العربي وتصاعد الصيحات بالعودة إلى التراث والفكر بل والعقل الذي كان سائدا بمنطقتنا في العصر الوسيط وحتى ما قبل الحداثة، مع القول إن هذه الفترة هي فترة الاستقلال والقوة والمنعة، إنها الفترة الذهبية التي يجب أن نرتد إليها بكل قوانا وطاقتنا العقلية والنفسية والروحية. من الواضح أن زكي نجيب محمود في هذا الكتاب يقف أمام هذه الموجة المتصاعدة ويسعى أن ينبه إلى أن التحديث لم يتجذر أساسا في الفكر والعقل العربي، فهو لا يزال عند القشور ويحتاج إلى مده اتساعا وعمقا حتى نتصل مرة أخرى بالعصر ونعود إلى التاريخ، فاستعرض الكثير من القضايا التي استغرقت الفكر العربي في الماضي وشكلت جزء ضخم من تراثه، لكنها أصبحت خارج تناول فكر العصر ومجافيه لروحه. في الوقت نفسه، فإنه تلبية لمطلب ملح نابع من أعماق النفس بتطلع إلى الاستقلال الحضاري والتميز الثقافي، فإن محمود عمل في صبر ودائب وإبداع حقيقي على العمل على مد الجسور بين ما يمكن أن يشكل أفكار وتيارات رئيسية موجودة في هذا التراث وتصلح للمساهمة في نقاش العصر وفكره والتصدي لمشكاله وإشكالياته. إنها محاولة مبدعة من عقل وروح منتمي يحمل هموم أمته ويخوض معارك هي ربما من أخطر معاركها وأكثرها محورية في هذا الزمان وربما كل زمان.. معركة التحول والولادة والخلق التي يفرضها تجدد الزمن البشري في حركته، واستمرارية تاريخية مطلوبة لسلامة العقل والروح والبناء الاجتماعي والغني الحضاري والثقافي.   

  لذلك فإن كتاب «تجديد الفكر العربي» في تقديري يظل غير قابل للتجاوز لأي مهتم بالفكر العربي المعاصر و/أو مهموم بقضية التقدم والاستمرارية والاتساق التي تشكل ربما المعضلة الرئيسية (بألف لام التعريف) للإنسان العربي في هذا الزمان.     

 

هامش:

  الوضعية المنطقية: الوضعية المنطقية logical positivism اتجاه في الفلسفة العلمية منبثق من الوضعية ظهر في القرن العشرين، يعول أساساً على التجربة تحقيقاً للدقة والبناء المنطقي للمعرفة العلمية بهدف تنظيم المعرفة داخل نسق «وحدة العلم» كي يزيل الفروق بين فروع العلوم المختلفة بدعوى أنه لا يمكن قيام فلسفة علمية أصيلة إلا بوساطة التحليل المنطقي للعلم. وقد أطلق على هذه الفلسفة أسماء عديدة منها: التجريبية العلمية والتجريبية المنطقية وحركة وحدة العلم والتجريبية المتسقة، والفلسفة التحليلية. وقد تولد منها وضعيات أخرى مثل الوضعية المنطقية في علم الأخلاق والسياسة الوضعية، وتأثرت بها عدة فلسفات معاصرة مثل البراغماتية[ر] «الذرائعية».

  بدأت الوضعية المنطقية كحركة فلسفية ظهرت في النمسا وألمانيا في العقد الثاني من القرن العشرين. تعنى هذه الحركة الفلسفية بالتحليل المنطقي للمعرفة العلمية، حيث تؤكد أن المقولات الميتافيزيقية، أو الدينية، أو القيمية، فارغة من أي معنى إدراكي، وبالتالي، لا تعدو كونها تعبيرًا عن مشاعرَ أو رغبات. إذًا، فقط المقولات الرياضية والمنطقية، والطبيعية هي ذات معنى محدد. من ضمن المفكرين الذين ينتمون لهذه الحركة رودولف كارناب (1891-1970)، والذي يعتبر علمًا من أعلام الحركة، هيربيرت فغل (1902-1988)، كيرت جرلينج (1866-1942)، هانس هان (1879-1934)، وكارل هيمبل (1905-1997).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق