الصفحات

الأربعاء، 13 يوليو 2022

الحرافيش.. إنجاز محفوظ الأكبر

 الحرافيش.. إنجاز محفوظ الأكبر

شادي عمر الشربيني

 


انتهيت مؤخرا من قراءة رواية محفوظ الأكبر "الحرافيش" أو "ملحمة الحرافيش" لأنها تتكون من عشر روايات متتالية، كل رواية تسلم للأخرى.

  لقد تأخرت كثيرا في القراءة لمحفوظ، ربما لعدم إعجابي بآرائه السياسية بشكل أساسي، ولكن بصرف النظر عن الاسباب فهذا تقصير مخل وخطير من جانبي، وعلى العموم فإنه منذ عهد طويل لم يكن عدم اتفاقي مع وجهة نظر أو اراء كاتب معين مانع لقراءتي إنتاجه، بل إنه منذ مدة لا أذكر بدايتها فإن أغلب الكتب التي أقراءها هي لهؤلاء الذين لا أتفق مع الكثير من اراءهم، وبالرغم من أن هذا مرهق أثناء القراءة، إلا إنه مفيد جدا في النمو المعرفي والثقافي، بل والعقلي والنفسي.  

  ولأنني كنت متشوق للدخول إلى حضرة الرواية المحفوظية واكتشافها مباشرة بدون وسطاء، فقد اقترحت على مجموعة من الأصدقاء اثناء وضع الخطة السنوية لقراءة ومناقشة عدد من الكتب أن تكون رواية "خان الخليلى" ضمن تلك الكتب على أساس أنها ليست رواية كبيرة لمحفوظ (أكثر قليلا من 250 صفحة)، ولكن تم تحويل الاقتراح إلى قراءة ومناقشة "الحرافيش"، وأنت تشاء لكن الاقدار لها مشيئتها كما يقولون، ولها عندي شكر مستحق على اختيارها هذه المرة.

  إن الحرافيش ملحمة كبيرة (تدور حول 600 صفحة في مختلف طبعاتها) تحكي قصة آل الناجي من أول المؤسس عاشور وتمتد على مدى عشر أجيال، في عشر قصص متتابعة، وكل قصة يكون بطلها (وأحيانا قليلة جدا بطلتها) أحد أفراد العائلة، والقصة الأخيرة بطلها عاشور أيضا ولكن عاشور الحفيد هذه المرة الذي يمثل الجيل العاشر من العائلة. من خلال آل عاشور نعيش بشكل أساسي في حارة تتحرك فيها الاحداث ولكن لا يتحرك الزمان وهنا المفارقة!!

  يكتشف القارئ بسهولة تعمد نجيب محفوظ عدم تحديد الفترة التاريخية التي تدور فيها أحداث الملحمة، وذلك لجعل المكان رمزا لمستويات متعددة ومختلفة، من أول مجتمع صغير محدود إلى الإشارة لقصة الإنسانية كلها!!

  نعم القارئ يستطيع أن يكتشف بسهولة مقصد محفوظ هذا، وإن كان في رأيي أن هناك بصمات زمانية في الرواية يمكن من تتبعها أن نحصر أحداث الرواية بين أواخر القرن الثامن عشر حتى أوائل القرن العشرين، حتى لو لم يقصد محفوظ ذلك!!

  مع أن صلب الرواية كما هو واضح من عنوانها تحكي عن الظلم والعدل الذي يلحق بحياة الحرافيش الذين يشكلون الأغلبية من سكان الحارة، وفي نفس الوقت أكثر طبقاتها التي تقوم بالإنتاج ولكن حصاد عملهم يصب غالبيته العظمى لصالح القلة المالكة، التي يمثل التجار عصبها في تلك الحارة، والسلطة الحاكمة، والتي يمثلها بشكل أساسي الفتوة وعصابته. إن الحال كان دائما هو ظلم بين ومعيشة ضنك ومهينة للحرافيش، إلى أن يحدث تغير كبير، ولا أقول انقلاب، في تلك الأوضاع مع صعود عاشور الناجي لكرسي السلطة، فيصبح فتوة الحارة. فبصعوده هذا ينفك التحالف المقدس والدائم بين الثروة والسلطة، فقبله كانت مهمة الفتوة بشكل أساسي هي قمع الحرافيش بل وتحصيل الجزء الأكبر من الإتاوات منهم، ولكن مع عاشور تنقلب تلك السياسة، فيصبح العبء الأكبر من الاتاوة يقع على عاتق أصحاب الثروة، ولا يرتزق الفتوة وعصابته من الفتونة ولا يتميزون طبقيا، فعاشور يرفض هذا الوضع ويصر أن يستمر في مهنة يرتزق منها ولا يراكم أي ثروة ويرفض أن يغادر موقعه الطبقي ويفرض ذلك على رجاله أيضا، فلا تمتد أيدي أيا منهم إلى جزء ولو يسير من الاتاوات، والتي في عهده تذهب بأكملها للحرافيش وتحسين أوضاعهم وإلى مشاريع عامة تخدم كل أهل الحارة أو الفقراء منهم على وجه خاص.

مثلت السياسات العاشورية فترة ذهبية يوتوبية للحرافيش، وكانت بالطبع موضع سخط ولعن الطبقة المالكة، مع أن عاشور لم ينزع أي شيء من ملكياتهم واكتفى بأخذ الاتاوات منهم، حيث رأت الطبقة أنها خسرت أداتها القمعية وعز عليها أن يتم توجيه جزء من فائض القيمة إلى الحرافيش. لقد اكتملت أسطورة عاشور باختفائه المفاجئ وأصبح أرثه وتأويل فترة حكمه مسار صراع على طول الملحمة الممتدة بعد رحيله.

  على طول الرواية تمتد وتتمدد وتنحسر العائلة العاشورية، ويختلط فيها البطولة ونكران الذات والتقوى والمجد والشرف والكبرياء والفداء بالحقارة والنذالة والشيطنة والوضاعة والجبن والاستغلال والتسلط والخيانة، لكنها دائما موضع النظر ومحرك الأحداث الأساسي، فعبر تلك العائلة والاجيال الممتدة استعرض محفوظ تجليات واسعة ومختلفة ومتشعبة للشخصية الإنسانية، في بانوراما رائعة وبديعة وبالغة الثراء.

  لكن إذا كان يهدف محفوظ لرصد الوضع الإنساني بمختلف تجلياته، وهذا هو الأرجح، من خلال تلك الملحمة الممتدة، فإن نصيبه من النجاح بالمقارنة بهذا الهدف يظل محدودا، مثله في ذلك مثل المحاولات السابقة وحتى اللاحقة، لأن الوضع الإنساني وتجلياته المختلفة أوسع دائما من أي محاولة لحصرها، وغالبا ما تصاب تلك المحاولات، وهو ما أراه قد حدث بدرجات متفاوتة في حرافيش محفوظ، بالضياع في التيه وتضبيب الرؤية واضطراب البوصلة.

  ليس رواية سببت ضجة خطيرة مثل "أولاد حارتنا" أو شهيرة وممتدة على أجزاء وبالغة التأثير مثل الثلاثية هي الإنتاج الأعز والأقرب إلى قلب محفوظ، ولكن ملحمة الحرافيش هي التي تحتل تلك المكانة عنده طبقا لأكثر من شهادة للقريبين منه، وبالفعل فإن تلك الرواية أشادت بها حيثيات جائزة نوبل للأدب عام 1988. لقد صدرت الطبعة الأولى للرواية في عام 1977، وليس عندي معلومات حول المدى الزمني الذي استغرقته كتابتها، وإن كنت أرجح أن الكتابة فيها امتدت لأعوام، وتطورت عبر زمن ليس محدود، فقد عمل محفوظ فيها على حشد أكبر قدر من النماذج والأفكار والمشاعر والرموز.

  الحرافيش محاولة عبقرية وبديعة لكن ضعفها الرئيسي، في تقديري، أن الزمن الحضاري والثقافي فيها راكد ومتبلد، فأجواء العصور الوسطى بثباتها وتحجرها إلى حد كبير متمكنة من النفسية المحفوظية، على الأقل في تلك الرواية. فبالرغم من ثراء الاحداث وغنها بالشخصيات والنماذج إلا أن زمانها دائري، يدور حول نفسه مثل حركة دوران الدراويش الذين كانوا ينشدون في التكية التي مثلت المركز الروحي لحارة الحرافيش.  

  إنني فيما سبق أشرت بشكل مكثف وسريع إلى ملحوظتي الرئيسية على الملحمة، ولكنها مفتوحة لقراءات متعددة وواسعة، وتستحق كل رواية فيها، من الروايات العشرة التي تكونها، لمعالجة خاصة ومتفردة، وهو ما سأحول أن أحققه سواء في كتابات قادمة أو عبر فيديوهات أو كليهما، ولكن تظل الرواية من أبرز الكلاسيكيات ليست العربية فقط ولكن العالمية أيضا، ولا يجب أن تكون خارج قائمة قراءات أي مهتم بالأدب أو حتى بالفكر والثقافة بشكل عام. 

الأحد، 10 يوليو 2022

سوق العمل كهدف للعملية التعليمية!!

 سوق العمل كهدف للعملية التعليمية!!

شادي عمر الشربيني

  


  على رأس الأمور التي يتم تسويقها أنها الهدف الأول لتطوير التعليم، إن لم يعد يتم تقديمها كهدفه الأول والأخير، هو ربط العملية التعليمية بسوق العمل.

  وهذا الموضوع أثار انتباهي ولفت نظري، فتسألت ما هذا الاختزال المخل والمجنون للتعليم؟!! اختزال يعكس تمكن عقلية السوق ونفسيته من كل مستويات التفكير والتخطيط وترتيب الأوليات في مصر.

  هل يعني ذلك رفضي أن يضع التعليم في اعتباره سوق العمل ومتطلباته؟؟!!

  الإجابة قاطعة.. لا أحد يمكن أن يستبعد هذا الأمر أو يستنكره، لكن المسألة هي النظر في عملية ترتيب الأولويات ومفهوم الإنسان والمواطن في الدولة والمجتمع. أن يقدم التعليم شخص يمتلك من المهارات التقنية والفنية والادائية ما يجعله قادر على الاندماج السريع في سوق العمل وتلبية متطلباته في آن، أمر بالتأكيد لا خلاف عليه، ولكن قبل ذلك.. قبل ذلك تأتي أمور أهم بكثير تمثل رأس العملية التعليمية بل وقلبها وروحها، وهي في تقديري كالتالي:

1-           بناء شخصية سوية قادرة على التعامل الاجتماعي بشرف ونزاهة واحترام. تحب الناس وتحرص على مصالحهم وما فيه خير لهم بنفس حرصها على مصلحتها وخيرها المباشر.

2-           أن يهدف التعليم إلى يناء شخص منتمي لبلده وأمته، يعرف قضاياها وهموها، أعدائها وأصدقائها، معاركها ونضالاتها، ويدرك أهدافها القريبة والبعيدة، فيربط أهدافه الخاصة ومستقبله وتطلعاته بتلك الأهداف وبتطلعات أمته وطموحها.

3-           أن يمتلك أدوات التفكير ومناهجه الصحيحة، فيستطيع أن يفرز الجيد من السيء ويتخذ القرار السليم ويعلم ما يجب أن يتخذه في اعتباره وهو يصنع قراره وما يجب إهماله وتركه، ما يستطيع أن يؤثر فيه ويغيره، وما لا يجب إهدار وقت كبير في تعديله وتغييره.

4-           أن يكون ملم بالعلوم ومتشرب لمنطقها، فحتى ولو كان عمله واختياراته بعيدة عن العلم بتفرعاته وأدواته، إلا أن العقل العلمي هو الثمه الأساسية والأولى للفكر الحديث والمعاصر، وعبر العلم حققت وتحقق المجتمعات والدول والأمم بل والإنسانية كلها معظم طفرتها وتقدمها.

5-           اللغة.. التمكن من اللغة والحصيلة اللغوية وتذوق الأدب وفنون اللغة الأم، يقوي ثقة الإنسان بنفسه ويمكنه من القدرة على التعبير بل والتلقي، ويجعله أكثر رقيا وتحضرا وقدرة على التأثير الإيجابي والفعال في محيطه. والأكيد أن إضافة لغة أو أكثر للغة الأمم توسع من الثقافة وتعمقها وتمنح الشخص أدوات أكثر وأكبر وأسع للوصول إلى البيانات والمعلومات بل وتثري أيضا اللغة الأمم بالانفتاح وتناول ثقافات أخرى ذات عقليات وتجارب وذائقة مختلفة.

6-           الاعداد العقلي.. عملية التعليم يجب أن تهدف إلى غرس ورعاية عقلية النمو والتعليم المستمر والتجريب وعدم الخشية من الفشل، لأننا نتعلم من أخطاءنا ونكبر بتجاوزها وتصحيح المسار، والتطور والنمو والتقدم له أثمانه وأعباءه التي ندفعها بروح مملؤة بالأمل والتفاؤل والنظر إلى المستقبل وليس الانحصار في الماضي أو التعثر في الحاضر.


  هذا بعض نتاج عصفي الذهني بشأن الأهداف الأولى والرئيسية للعملية التعليمية، وبالتأكيد يمكن الإضافة لما سبق وتعديله وإحكامه بصيغ أقوى وبكلمات وعبارات أكثر وضوحا وتعبيرا، ولكنها كلها وأكثر منها بكثير يجب أن تكون له الأولوية في الهدف والتخطيط للعملية التعليمية، وتسبق بشكل حاسم ما يسمى بمنح المتخرج من تلك العملية أدوات الالتحاق بسوق العمل وتلبية متطلباته. فالراجح أن تحقيق الأهداف السابقة حتى بدون تحقيق الهدف المتعلق بسوق العمل هو في حد ذاته كفيل بجعل تلك المسألة ثانوية وفي متناول يد كل من يحقق ويتحقق فيه كل ما سبق من أهداف ولو بدرجات.

  كما أن سيادة الاقتصاد الخدمي والريعي والتابع في مصر، يحمل شبهة واسعة حول هدف ما يسمى بالتمكن من أدوات سوق العمل، فغالبًا نحن نقصد أدوات خاصة بالفندقة والتخديم والترفيه والسمسرة و/أو العمل في ذيل العملية الإنتاجية ومن موقع التابع والمنفذ لاستراتيجيات وخطط الخارج!!