فلسطين قضية مصرية.. العودة إلى
البديهيات
شادي عمر الشربيني
عبر خطوط الزمن وتعرجاته
بل وانقلاباته، كثيرا ما تضيع البوصلة من الأمم، فتدخل في تيه ممتد، ولكن هذا
التيه ليس بلا نهاية، فإما أن تستعيد الأمة بوصلتها، وتشق الطريق الذي يلائم
تاريخها ومستقبلها في آن، أو تضيع بلا عودة في صحراء هذا التيه.. فتموت عطشا وهي
تسعى وراء سراب، وتخرج من التاريخ مرة أخرى وأخيرة!!
ابتداء من سبعينيات القرن الماضي بدأ الطريق يضيع من مصر، بعد أن امتلكت البوصلة وراحت في
اتجاهها تشق طريقها مكافحة ومناضلة عبر خمسينات وستينات ذلك القرن ذاته. وعلى رأس
العملية الكبرى لتزوير العقل المصري وإدخاله في حالة ضبابية وتحطيم بوصلته، كان
تفكيك ثم تدمير ارتباط مصر بالقضية الفلسطينية، فأصبح يتم تصوير تلك القضية وكأنها
عبأ قاتل عليها، وليس أن أمنها القومي المباشر مرتبط بتحرير فلسطين!! وتم وضع
مصلحة مصر في العلاقة المباشرة بل والتعاون مع الكيان الإسرائيلي، والتغطية
والتعمية على أن هذا الكيان لم ولن يرى مصر سوى أكبر خطر عليه مهما فعلت، وسعى
ويسعى وسيسعى دائمًا إلى ابقاءها ضعيفة ومتخلفة ومنهكة بل وتفكيكها وأنهاءها وجوديًا!!
1-
قطعية عدالة القضية
الفلسطينية :
وفي سبيل استعادة البوصلة، مضطرين للتذكير بما
هو واضح وبديهي إلى أقصى الحدود، وعلى رأسه أنه ليس هناك قضية معاصرة قاطعة وحاسمة
في عدالتها مثل القضية الفلسطينية. القضية واضحة ماثلة أمامنا وتؤكد نفسها كل يوم،
قضية شعب يتم اقتلاعه من أرضه التي يضرب فيها بجذوره من آلاف السنين، لصالح أشتات
مجمعة من مختلف أنحاء العالم، تحت لافتة دعوة أسطورية بلا أي سند تاريخي أو حقوقي.
مع صبيحة كل يوم يتمدد سرطان الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين ويعمل على مسخ هوية
البلدات والقرى والأراضي الفلسطينية عامة. الشعب الفلسطيني أصبح يتم معاملته في بلده
ليس كأنهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة أو حتى الرابعة، بل على أنه غير
مرغوب فيهم على أرضهم!! تغلي فلسطين المحتلة بالمواجهات في غزة والضفة الغربية بل
وتمتد لتصل إلى أراضي 1948، ونكون نحن في مصر في دهشة واستغراب من الانفجار الذي
يبدوا لنا مفاجئا للمعارك والقصف المتبادل، وذلك لأن أعلامنا العتيد، بل والاعلام
الإقليمي والعالمي، أنقطع عن رواية الإهانة والتعذيب والتنكيل اليومي بل والتصفية
الممنهجة التي تحدث للشعب الفلسطيني على يد المحتل الإسرائيلي. يتم قطع وفصل الشعب
المصري عن قضيته الفلسطينية عبر السكوت والتعمية عما يحدث في تلك الأرض العظيمة من
معاناة وتنكيل وتضييق بل وترصد وقتل في مقابل صمود ومقاومة فوق الباسلة للشعب
العربي الفلسطيني، وذلك لعزل فلسطين عن عمقها المصري، وعزل مصر عن عمقها الفلسطيني
العربي، فيسهل محاصرة والقضاء على الطرفين معًا..

إن
الدعاوي التي أقيم على أساسها الكيان الإسرائيلي متهاوية وساقطة علميا وتاريخيا،
بل وحتى دينيا. فقبل أن يكون تلك الاشتات التي يتم استدعاؤها من أطراف الأرض إلى
فلسطين المحتلة ليس لهم أي صلة بالتاريخ الديني للمجموعات اليهودية في فلسطين، ذلك
التاريخ الذي سقط معظمه أركيولوجيا ولم يصمد أمام البحث العلمي والأثري، فإنه في
كلا من المسيحية والإسلام قد سقطت دعوى شعب الله المختار، ولم يعد هناك أي محرض أو
مبرر لاهوتي لما يسمى بعودة اليهود إلى فلسطين، بل والأكثر من ذلك فإنه حتى على
المستوى الديانة الإبراهيمية الأولى، اليهودية ذاتها، فإن تلك العودة مرتبطة بمجيء
الماسيا المنتظر (المشيح أو هامشيخ أو المسيح)، الذي يعتبر ظهوره، داخل المنظومة
اليهودية، هو الإشارة الإلهية لتلك
العودة، وبدونه فإنها هرطقة بل وخروج على الأمر الإلهي وقضائه!!
إن
الدواعي الحقيقية لإنشاء الكيان الإسرائيلي على رأسها الهدف الاستعماري العتيد
لفصل مشرق العالم العربي عن مغربه، أو بشكل أكثر دقة الفصل بين مصر بالذات وذلك
المشرق لمنع قيام دولة الوحدة، تلك الدولة التي عند قيامها ستملك المقومات
الحقيقية للحفاظ على ثروات ومصالح شعوب المنطقة وتقطع دابر الاستغلال والنهب
والاختراق الغربي. أما الهدف الثاني هو حل ما يسمى بالمسألة اليهودية التي بدأت
تنفجر في أوروبا منذ القرن التاسع عشر، والتخلص من الفائض اليهودي فيها ليقيم في
قلب الأمة العربية كيان عميل للغرب، يخدم أهدافه في المنطقة ويكون مخلب يبطش به في
يده. إن الهدف من هذا الكيان هو المنطقة بأكملها والشعب العربي بأكمله، ولكن أهلنا
في فلسطين هم الذين يدفعون الثمن المباشر. لذلك فإن قواعد الإنسانية والتي على
رأسها العدل، تحتم على مصر دولة وشعب التصدي لذلك الكيان ودعم الشعب العربي الفلسطيني
في كفاحه ونضاله، فذلك في صلب الأمن القومي المصري ذاته.
2-
مصر.. من نهضة المواجهة إلى
سقوط الانسحاب:
هذا
أولاً، أما ثانيا فإنه في معرض الحملات الدعائية لتبرير خروج مصر وانسحابها من
معركة التصدي للكيان الإسرائيلي، هو التلويك المستمر لمقولة أن مصر لا قبل لها
بمواجهة إسرائيل، فهي لا تملك إمكانات مواجهة إسرائيل القوية المتقدمة والتي تقف
معها وبجانبها ومن ورائها أكبر قوة عظمي على الأرض، وهي الولايات المتحدة
الامريكية.
إنه
فضلا عن الروح الانهزامية الضئيلة التي تروج لمثل هذا الكلام، وصاحبة مقولة
أن 99%
من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة، فإنها تغفل أحد أكبر محركات التاريخ
وصعود الأمم، وهو التحدي والاستجابة. إن
الأمم تقوم وتصعد في ضوء قبولها للتحديات الكبرى والاستجابة لها بحشد الإمكانيات
وصنع التقدم وحرق المراحل نحو المستقبل وحيازة القوة بعزيمة واصرار وروح مناضل
مكافح. في ظل استجابة مصر للتحدي الإسرائيلي سعت لبناء قاعدة صناعية واسعة لتعويض
فارق التقدم بينها وبين الغرب والتصدي للصهيونية، سعت لبناء جيش قوي حديث متكامل
وانطلقت في تصنيع مختلف الأسلحة والعتاد العسكري، حتى عندما كانت النكسة في 67،
والذي يصر كثيرون على تسميتها بالهزيمة ولا هزيمة لمن يقاوم ويصمد، فإنه في أتون
تلك المعركة تم إعادة بناء الجيش الوطني على أمتن الأسس الحديثة والمتقدمة، واكتسب
في نيران المعركة الممتدة من يونيو إلى أكتوبر 73خبرات قتالية وعسكرية هجومية
ودفاعية هائلة، عوضت الغياب الطويل للمنظومة القتالية المصرية عن الصراع الإقليمي
والعالمي، مما جعلها غائبة عن المعنى الحقيقي للصراع الحديث بكل مستجداته وأبعاده
الشاملة، والصراع ضد الكيان الإسرائيلي كان هو الميدان الذي عوضت من خلاله مصر ذلك
الخروج الطويل من التاريخ والغياب عن الصراع الشرس على المصير.

الاستجابة لم تكن على المستوى الداخلي والعسكري فقط، بل إن ذلك لم يكن ممكن
بدون سياسية خارجية نشطة ومناضلة على مستوى الإقليم والعالم الثالث والثاني وأفريقيا
واسيا وفي المنظمات الدولية المختلفة. استطاعت مصر من خلال تلك السياسة النشطة
المكافحة بناء جبهة واسعة بعرض أفريقيا وأسيا وأكثر من نصف أوروبا وشعوب أمريكا
اللاتينية مؤيدة لكفاح الشعب الفلسطيني ولموقف مصر العادل في مواجهة كيان الاغتصاب
والعدوان الإسرائيلي. وهكذا كانت القاهرة في ذلك الوقت عاصمة العالم الثالث وقبلة
المناضلين والشرفاء على مستوى العالم، ونموذج تتعلق به كل الشعوب التي تسعى للتحرر
والحصول على حقها في المستقبل.

إن
مصر العربية هي مصر القائدة في إقليمها، ولا نفوذ ولا ثقل بل ولا كلمة لمصر في هذا
العالم إلا من خلال وبقيادتها لهذا الإقليم، ولا عروبة وقيادة لمصر بدون تصديها
للكيان الإسرائيلي ومساندة كفاح ونضال الشعب الفلسطيني الحر. منذ أن سلمنا 99% من
أوراق اللعبة لليد الأمريكية وأنطفأ النور المصري، دخلنا في فلك التبعية، وفككنا
قواعد التقدم والتصنيع في الداخل، وانكمشت قدراتنا العسكرية والقتالية نتيجة
للغياب مجددًا عن الصراع والانكفاء للداخل. تفشى الفساد والانحطاط في المجتمع،
راحت تنكمش يوما بعد يوم قيم الرجولة والثبات والشرف والفروسية والتضامن لصالح
النهب والاناملية والسطحية والخنوثة والدونية والاستسهال والسطحية. وهكذا فبخروج
مصر خسرت أكبر مقومات ومحفزات تقدمها وصعودها وتضامنها وسلامها الاجتماعي الداخلي.
يروج أنصار نظرية خروج مصر من المواجهة مع
الكيان الإسرائيلي وتقديم التنازل تلو التنازل له، أن مصر تعبت وأرهقت من الحروب
ويجب أن تتفادى الدخول في أي حرب جديدة. ولكن ما يغفله هؤلاء هو أولا من يخشى
الحرب ويهرب منها هو من قبل بهزيمته مقدما وخضع ويخضع وسيخضع لابتزاز لا يتوقف ولا
ينتهي، وثانيا أن خلال كل المواجهات العسكرية التي خاضتها مصر ضد الكيان
الإسرائيلي، كان الكيان الإسرائيلي هو المعتدي ولم نكن نحن المهاجمين أو البادئين،
لقد كنا دائما نصد العدوان، حتى حرب الاستنزاف و73، لم تكن سوى لرفض إسرائيل
قرارات مجلس الأمن والمنظمات الدولية للانسحاب من الأراضي التي احتلتها في عدوان
يونيو 1967. مواجهة الكيان الإسرائيلي لا تعني الخوض في مواجهة عسكرية معه لا
تتوقف، بل المواجهة العسكرية ليست سوى جوالات محدودة في سياق المواجهة الشاملة، وقد
كان الإسرائيلي البادئ بها دائما، وعبد الناصر نفسه صرح أكثر من مرة وفي أحاديث
صحفية أنه لا يهدف من المواجهة العسكرية سوى استرداد أرض 67 مع عدم الاخلال بأي حق
من الحقوق الفلسطينية، بل إنه فتح الباب واسعا لإمكان تحقيق هذا الهدف سياسيا، فهو
كما قال لا يريد أن يظل الاقتصاد المصري اقتصاد حرب كما أصبح بعد عدوان يونيو. لكن
المروجين للانهزامية والخضوع والتبعية يربطون دائما بين الحرب كصراع العسكري ومواجهة
الكيان الإسرائيلي.

في
ظل المواجهة مع الكيان الإسرائيلي كانت مصر المتوثبة المتقدمة المنتبهة النشيطة
المتحركة، مصر التي تسعى لبناء دولة الوحدة لعدل ميزان القوة في مواجهة الصهيونية
والامبريالية. ولم يترافق خروج مصر من هذا الصراع سوى الخمود والغيبوبة والسبات
الطويل الذي لا يقظة منه إلا بالعودة إلى ساحة المواجهة.
3-
الصهيونية لن تنظر إلى
مصر إلا كعدو:
أما
ثالثا، فإنه يتم الترويج أن إسرائيل لا يمكن أن تكون فقط صديقا لمصر، بل أنها ستكون
أكبر داعم ومساعد لها، فاللوبي الصهيوني هو الطريق لفتح أبواب واشنطن، كما أن
التكنولوجيا الإسرائيلية المتقدمة سنستفيد منها، هذا غير المشاريع الشرق الأوسطية
المربحة التي يمكن أن نشارك فيها إسرائيل وتكون وسيلة جذب لرؤوس الأموال وتنشيط
الاستثمار!!

إن
الذين يروجون لمثل هذا الكلام، وها قد مضى حوالي 40 سنة من ما يسمى بالسلام
والعلاقات والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي كافية لكي نلمس بأيدينا كذب وعبثية هذه
الأوهام، ينسون أو يريدونا أن ننسى أن العداء لمصر كامن في قلب العقيدة الصهيونية،
عداء يشكل مدماك أول وأساسي في تلك العقيدة وزواله هو زوال للعقيدة نفسها. إن مصر
مرتبطة أساسا في التاريخ والفكر اليهودي بالفرعون الذي يضطهد الشعب العبراني
ويسخره ويسومه سوء العذاب، فمصر تمثل الشر والشرير في تلك الرؤية وذلك التاريخ. ثم
إن الفكر الإسرائيلي يعلم جيدا أن العروبة متمكنة ومعجونة بوجدان الشعب المصري،
وأن مهما كانت الدرجة التي يصل إليها أي تطبيع مع هيئات سياسية أو اقتصادية أو
اجتماعية في مصر، فإنه سيظل قشرة رقيقة على السطح ويستحيل اختراق وجدان الشعب
المصري العروبي. من الشهادات الحديثة على ذلك ما جاء في كتاب "العاقل تاريخ
مختصر للنوع البشري" الصادر في 2014 للكاتب الإسرائيلي يوفال نوح هراري، فنقرأ
في ص 242 من الكتاب الفقرة التالية "حدثت عملية مماثلة في الإمبراطورية
العربية. فعندما تأسست في القرن السابع الميلادي، قامت على انقسام حاد بين النخبة
العربية المسلمة الحاكمة وبين الخاضعين من المصريين، والسوريين، والإيرانيين،
والبربر، الذين لم يكونوا عرباً ولا مسلمين. تبنى العديد من الخاضعين للإمبراطورية
تدريجياً العقيدة الإسلامية، واللغة العربية، وثقافة إمبراطورية هجينة. نظرت
النخبة العربية القديمة إلى هؤلاء بعداء عميق، خوفا من فقدان مكانتها وهويتها
الفريدة. ثم طالب المتحولون المحبطون بنصيب متساو داخل الإمبراطورية وفي عالم
الإسلام، وفي النهاية وجدوا طريقهم. اعتٌبر المصريون والسوريون وشعوب بلاد ما بين
النهرين بشكل متزايد "عربا"." ويختم الفقرة "كان النجاح
الكبير للمشروع الإمبريالي العربي هو أن الثقافة الإمبريالية التي أنشأها تبنتها
العديد من الشعوب الغير عربية، التي استمرت في دعمها وتطويرها ونشرها حتى بعد
انهيار الإمبراطورية الأصلية وفقدان العرب سلطتهم كمجموعة عرقية.". وفي صفحة
234 من الكتاب نفسه يذكر هراري "ويتكلم المصريون الحاليون العربية، ويفكرون
في أنفسهم كعرب، ويرتبطون بكل إخلاص بالإمبراطورية العربية". وما سبق دليل
حديث أخر على فهم الإسرائيلي لتجذر العروبة في نفوس المصريين. إن مذكرات سفراء
إسرائيل في مصر كاشفة عن مدى العزلة والإحباط الذي عانوه طوال فترة إقامتهم في
مصر، فالعقل الإسرائيلي والغربي عموما يدرك مدى عروبة مصر.

ما
سبق يسلط المزيد من الضوء على أن الإسرائيلي كان ومازال وسيظل يرى مصر
كعدو، وما
يسمى بالسلام معها هو زائل وعابر، وهو ليس سوى جزء من الإستراتيجية الصهيوغربية
لتقسيم الجبهة العربية وتحييد مصر مؤقتا للتفرغ للعدوان والقضم والتنكيل بأطراف
عربية أخرى، حتى عندما تحين لحظة المواجهة السافرة والمباشرة مع مصر، التي يتم بث
سموم التطبيع في عروقها وقتل روحها وتصفية دورها وزرع بذرور الفرقة والانشقاق في
جنابتاها، لا تجد مصر أي طرف صديق أو حليف لها في تلك المواجهة !!الآتية لا ريب
4-
الدور المصري وضبط
الساحة الفلسطينية:
إن
الدور المصري في فلسطين يتم استدعاؤه الآن، في أفضل الأحوال، كوسيط بين المنظمات
والهيئات الفلسطينية المختلفة والكيان الإسرائيلي، هذا إن لم يكن يتم صبه في أحيان
كثيرة أخرى في جانب الكيان الإسرائيلي بشكل كامل. إن ما يحدث نتيجة مباشرة لاتفاقية
السلام المذل المسماة بكامب ديفيد، وبسبب الرضوخ المتواصل لقيادات الدولة المصرية
للابتزاز الصهيوأمريكي. ذلك الشكل من الحضور جعل الصلة بين الدولة المصرية والشعب
الفلسطيني أوهى من خيوط العنكبوت، مما يضعف الحضور المصري في القضية الفلسطينية
إلى درجة العدم.

ذلك الضعف والتهالك المذري للدور المصري في فلسطين يخلق حالة فراغ موحش على
الساحة الفلسطينية، تسعى وتتقدم لملئه قوى إقليمية ودولية ليست بالضرورة صديقة
لمصر. إن الساحة الفلسطينية مفتوحة بشكل متزايد على التأثير الإيراني والتركي
والقطري والإماراتي وغيرهم، وفي ظل تحطم ما تبقى من قوى التيار القومي عبر تدمير
العراق وليبيا وسوريا، يزداد ويتوغل تواجد قوى غريبة في الساحة الفلسطينية التي هي
الحدود المباشرة لمصر. ولست هنا في معرض استعراض مدى تواجد وتأثير تلك القوى وفي
أي خانة يصب تواجدها ولصالح أو ضد مصر هذا التواجد، ولكن ما أريد التنبيه عليه أنه،
وقبل أي شيء، فليس على الدولة المصرية سوى أن تلوم نفسها على هذه التدخلات
المختلفة الغير مضبوطة وغير آمنة في تلك القضية التي تشتعل على حدودها مباشرة
وتشكل أكبر هاجس وقلق بل وخطر على أمنها القومي، لأن غيابها وخروجها من جبهة
مواجهة الكيان الإسرائيلي واقامتها علاقات كاملة والارتباط معه بشبكة من التعهدات والالتزامات
غير مكشوفة كلها حتى الآن، هو الذي صفى كل تأثيرها وتواجدها تقريبا على الساحة
الفلسطينية، ويفتح تلك الساحة لتأثيرات واسعة مختلفة ومتضاربة، الأرجح أنها في
أغلبها مضرة بمصر وتخصم من دورها ومكانتها بل وتأثيرها ومكانها ذاته إلى الحضيض.

إنني من أول المعترفين أن القضية الفلسطينية كانت منذ وقت طويل طويل ساحة
للمزايدات من أطراف مختلفة، وغالبا ما كانت تلك المزايدات موجهة ضد مصر، لكن مصر
كان في مقدورها دائما قمع تلك المزايدات أو تحجيمها عندما كانت في طليعة المواجهة
مع الكيان الإسرائيلي ودعم كفاح ونضال وتحرر الشعب العربي الفلسطيني. أما بعد
الخروج المذل من تلك المواجهة، أصبح استحضار الدور المصري في القضية الفلسطينية يتم
حصريا تحت المظلة الصهيوأمريكية، لذلك أنكمش التأثير المصري على ساحة الفلسطينية حتى
لامس حدود الصفر، وجعل تلك الساحة مفتوحة لعربدة أدوار مختلفة تستغل وتتلاعب بشكل
مثير لكل أشكال القلق والتوجس.
السبيل الوحيد لاستعادة دور مصر وثقلها العروبي والإقليمي والعالمي، بل
والسبيل للدفاع عن أمنها القومي مباشرة بشكل حقيقي وفعال هو الخروج من تيه كامب
ديفيد واستعادة دورها الرائد المناضل المكافح في مواجهة عدوان الكيان الإسرائيلي
والدعم المباشر لنضال وكفاح الشعب الفلسطيني. إن الدور الوساطة لا يليق بمصر في
هذه القضية بالذات، بل إن هذا الدور خطر وتهديد مباشر وقائم ومستمر لأمنها القومي
وسلامتها على مستوى الجبهة الداخلية قبل الخارجية. فلنترك مسألة الوساطات لغيرنا،
ولنستعد دورنا الطليعي، فذلك ما هو جدير بمصر وشعبها العظيم، ذلك ما يخدم أمن ومصالح
مصر مباشرة على المستوى الاستراتيجي والتاريخي، وهو ما يتبقى لمصر.
............................
حاولت
في هذا المقال تسليط الضوء على أربع نقاط رئيسية تكشف عن أن قضية فلسطين هي قضية
مصرية قبل حتى أن تكون فلسطينية. الكتابة والشرح والتحليل والاستفاضة حول هذه
المسألة يطول ويحتاج إلى أكثر من مقالة بل وربما أكثر من كتاب، فلم أقدم سوى مساهمة
متواضعة للتصدي لسرطان متفشي في الجسد المصري، سرطان فكري ومعنوي يطول بأكثر مما
يطول أجيال ناشئة في مصر، تم عزلها عن طبيعة الصراع ضد الصهيونية والكيان
الإسرائيلي وتجهليها عن عمد بأسباب وجذور هذا الصراع الطويلة والممتدة والمرتبطة بتاريخ
ومستقبل مصر بل بوجودها ذاته. فإلى جانب التجهيل والإخفاء والتعمية كان يتم بس
سموم التطبيع والحديث عن فوائد الكيان الإسرائيلي والتعامل بل والتعاون معه!!
هذه العملية المزدوجة خلقت تشوهات بالغة الخطورة في عقل ووجدان مصر، وفتحت
ومازالت تفتح الطريق لانتكاسات وانهيارات لا تتوقف ولن تتوقف إلا بتصفية مصر المكانة
بل والمكان والشعب ذاته. فواجب على كل الاحرار الوطنيين، وبخاصة المثقفين، إن يتصدوا
لهذا السرطان، ويحقنون شرايين هذا الوطن بالدواء والعلاج لحصر تفشيه وحصار
امتداداه تمهيد للقضاء عليه والخلاص منه. إن على المثقفين، وبخاصة مثقفي التيار
القومي الوحدوي وطليعته وكوادره، فرض عين الانخراط الكامل في تلك المعركة الفكرية
الروحية الخطيرة، واستدعاء الوعي والتنبيه وبث اليقظة، حتى وإن كان ذلك يتضمن في
جزء كبير منه إعادة سرد البديهيات وتسليط الضوء على الشمس الساطعة في منتصف
النهار!!