الصفحات

الأحد، 28 نوفمبر 2021

الكتب المقدس اليهومسيحي.. 1- مدخل عام

 الكتب المقدس اليهومسيحي

1-        مدخل عام

  منذ مدة بدأت في قراءة الكتاب المقدس، وأثناء القراءة بدأت تتوالى على رأسي أفكار وملاحظات بشأن ما أقرأه، وخطر لي أن تسجيل تلك الخواطر والملاحظات ومشاركتها مع جمهور واسع، يمكن أن يكون فيه فائدة. فائدة لي قبل أن تكون لكل من يتناول ما أكتبه بشأن هذا الكتاب، فالتفاعل مع المكتوب ونقده سيساعدني بالتأكيد على تطوير علاقتي بالنص والاقتراب أكثر من فهمه، كما أتمنى أن تكون القراءات والأفكار التي اقدمها حول الكتاب مفيدة وذات قيمة واضافة لمن يقرأها.

  لكن قبل أن أشرع في ذلك، فكرت أنه قد يكون من المفيد أن أبدأ بمقال يشكل مقدمة ومدخل عام لهذا الكتاب، وخاصة أن المتابعين سيكون أغلبهم من المسلمين بطبائع الأحوال والموقع واللغة، معرفة أغلبيتهم قشرية إن لم تكن شبه معدومة بهذا الكتاب. وهكذا فإن هذا المقال سأحاول أن أقدم فيه مقدمة عامة للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، يعقبها مقدمة أكثر اقترابا بالعهد القديم قبل أن أبدأ في تناول أسفاره، وقبل البدء في العهد الجديد سأضع مقال تمهيدي عنه أيضا كما سأفعل مع العهد القديم.

لماذا الكتاب المقدس اليهومسيحي؟؟

 يلاحظ القارئ أنني لم أكتفي في عنوان هذا المقال بكلمة الكتاب المقدس مطلقة بل خصصتها وقصرت مسألة التقديس عند المسيحيين واليهود، وذلك عندي مسألة بديهية لكنها تحتاج لإبراز، فالكتاب لا يعتبر مقدس أو أنه موحى به من قوة فوق طبيعية إلا عند اليهود والمسيحيين طبقا لإيمانهم العقائدي، بل إنه بالنسبة لليهود فإن صفة القداسة تنطبق على الجزء الأول من الكتاب فقط، ذلك الذي يطلق عليه المسيحيون "العهد القديم" ويطلق عليه اليهود "تناخ"، ولا تنسحب إلى جزئه الثاني المسمى مسيحيًا "العهد الجديد". أما بالنسبة للمسلمين، فإن هذا الكتاب، بنسخته الموجودة بين أيدينا الآن، لم يعد مقدسًا (بجزئيه القديم والجديد)، أو بمعنى أدق نزعت عنه القداسة بشكل كبير، لأن مع أن القرآن (كتاب المسلمين المقدس) يقول هذا الكتاب احتوى على كلمة الله، فهو ينبه في نفس الوقت، ويشدد في تنبيهه وتحذيره، أنه قد امتدت إليه أيد التحريف من إضافة وحذف وتغيير.

  وهكذا نرى أنه داخل الدائرة الابراهيمية نفسها، تختلف مسألة التقديس بين أديانها الثلاثة الكبرى. وإذا رأينا أن تعداد سكان العالم، طبقا لإحصاء الأمم المتحدة في نوفمبر 2021، 7.9 بليون (مليار) نسمة، فسنجد أن منهم حوالي 2.4 بليون مسيحي، وذلك طبقا لأحد أحدث الإحصاءات[[1]]، وأقل من 2 بليون مسلم وحوالي 15 مليون يهودي، سيكون واضحًا أن حوالي نصف البشرية لا تربطهم أي صلة من القداسة بهذا الكتاب.

 

Religion

Adherents

Percentage

Christianity

2.382 billion

31.11%[1]

Islam

1.907 billion

24.9%[1]

Secular[a]/Nonreligious[b]/Agnostic/Atheist

1.193 billion

15.58%

Hinduism

1.161 billion

15.16%

Buddhism

506 million

5.06%

Chinese traditional religion[c]

394 million

5%

Ethnic religions excluding some in separate categories

300 million

3%

African traditional religions

100 million[4]

1.2%

Sikhism

26 million

0.30%

Spiritism

15 million

0.19%

Judaism

14.7 million[5]

0.18%

Baháʼí

5.0 million[6]

0.07%

Jainism

4.2 million

0.05%

Shinto

4.0 million

0.05%

Cao Dai

4.0 million

0.05%

Zoroastrianism

2.6 million

0.03%

Tenrikyo

2.0 million

0.02%

Animism

1.9 million

0.02%

Neo-Paganism

1.0 million

0.01%

Unitarian Universalism

0.8 million

0.01%

Rastafari

0.6 million

0.007%

total

7.79 billion

100%

 

  ما هو الكتاب المقدس؟؟

   تكفي نظرة نُلقيها على فهرس هذا الكتاب لنرى أنه "مكتبة" بل مجموعة كتب مختلفة جدًا. ذلك أنها تمتدُ على أكثر من عشرة قرون وتٌنسَب إلى عشرات من المؤلفين المختلفين. بعضها وضع بالعبرية (مع بعض المقاطع بالآرامية) وبعضها الآخر باليونانية، وهي تنتمي أشدّ الفنون الأدبية اختلافًا، كالرواية التاريخية ومجموعة القوانين والوعظ والصلاة والقصيدة الشعرية والرسالة والقصّة. [[2]]

  


كتب الرسول بولس وهو على وشك أن يلقى الموت، ما يعتقد الكثيرون أنه آخر رسائله التي وصلت إلينا، وجهها إلى أقرب أصدقائه، تيموثاوس، قائد أحدى الكنائس التي كانت موجودة فيما يسمى الآن بتركيا؛ "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ" (2 تي 3: 16). وكان الرسول السجين يتكلم عن الكتاب المقدس اليهودي، الذي يسميه المسيحيون الآن؛ "العهد القديم"، ولعله لم يكن معروفًا تماماً أن يوماً ما سيعتبر المسيحيون رسالته الخاصة جزءا من الأسفار المقدسة. والأرجح أن الرسول بولس لم يكن استثناء قي هذا الأمر، فعلى قدر ما يعرف العلماء، لم يكن أحد من كتبة الأسفار المقدسة، يعرف أن كلماتهم ستصبح جزءاً من الكتاب المقدس. [[3]]

  فالكتاب المقدس، ويعرف أيضًا بعدة أسماء أخرى أقل شهرة منها كتاب العهود [[4]]، هو الاسم الذي يطلق على مجموعة كتب تسمى في العربية أسفارًا. وهي الكتب المكونة للعهدين القديم والجديد والمؤلفة من 73 سفرًا – 46 العهد القديم 27 العهد الجديد (وذلك بإضافة السبع أسفار القانونية الثانية).  وقد سمى الكتاب المقدس مرة واحدة بهذا الاسم "الكتب المقدسة" (2تى3:15)، أي الكتابات المقدسة تميزا لها عن الكتابات الأخرى. [[5]]  

  لكن هناك استدراك واجب لما أوردناه للتو عن مكونات الكتاب المقدس، ففضلا عن ما ذكرناه سابقا عن عدم اعتراف اليهود بالعهد الجديد (الكتاب الذي يضم الاناجيل وكتابات الرسل المبشرين بيسوع المسيح)، وإلا ما ظلوا يهودًا، فمن المعروف أن ليس كل اليهود اتفقوا على الكتابات التي يتكون منها كتابهم المقدس (العهد القديم في التسمية المسيحية)،  فطائفة الصدوقيين اليهودية المنقرضة كانت ترفض الاعتراف بغير أسفار موسى الخمسة (التوراة)، وكذلك حال السامريين؛ أما يهود الإسكندرية أضافوا ما يعرف باسم الأسفار القانونية الثانية والتي قبلها لاحقًا الكاثوليك والأرثوذكس في حين رفض يهود فلسطين والبروتستانت الاعتراف بأنها كتبت بوحي[[6]]. المسيحيين أيضاً تجادلوا حول الأسفار التي يتكون منها العهد الجديد، وظل الأمر كذلك حتى عام 300م، حين اتفق غالبية قادة الكنيسة على مجموعة الأسفار التي يتكون منها الكتاب المقدس الآن، بل وحتى الآن مازال هناك اختلاف في الآراء والإيمان بمكونات الكتاب المقدس (بعهديه)، فالرومان الكاثوليك عندهم عهد قديم ضخم يشمل عدة أسفار وأجزاء من أسفار موجودة في النسخة السبعينية، وهي الترجمة اليونانية القديمة للأسفار العبرية (التي يضمها العهد القديم)، والكنائس الأرثوذكسية الشرقية تضيف أسفار قليلة أخرى[[7]]، أما الطائفة البروتستانتية تُدافع عن كتابها المقدس الذي يحتوي على 66 سفرا وليس 73 سفرا كما يؤمن الأرثوذكس والكاثوليك  لحذفهم 7 أسفار لم يقرهم مجمع هُبو 393م.

 التاريخ الديني وتدوين الكتاب المقدس

  طبقا للرواية المعتمدة دينيًا يرجع تاريخ البدء في كتابة الكتاب المقدس إلى 3472 سنة مضت، فقد دعا الله نبيه موسى ليبدأ في تدوين أسفاره الخمسة الأولى عام 1512 قبل الميلاد، وهي المسماة بالتوراة. وأستغرق تدوينه حوالي 1610 سنة، فقد سجلت آخر أسفار العهد الجديد عام 98 ميلادية، ولقد قام بكتابته أشخاص كثيرون لم يعرف منهم سوى 40 شخصا، أولهم النبي موسى وآخرهم يوحنا. [[8]]

  يؤمن المسيحيون أن هذا الكتاب معصوم، وثابت إلى الأبد، وغير قابل للنقض، وبحسب تحديدات المجمع الفاتيكاني الثاني فهو «ما راق الله أن يظهر بكلام مؤلفيه»، و«اختبار البشرية لخالقها» و«الصيغة البشرية للتعبير عن كلام الله الذي لا يُعبّر عنه»؛ أما أحبار اليهود أمثال إيليا بن سليمان زلمان فقد اعتبر أن دراسة الكتاب هي الطريقة المثلى للتواصل مع الله، «لأن الله والتوراة واحد، فلا يمكن فصل الله عن رسالته»؛ في حين اعتبره الحبر يهوشوع أيونجيل «كل غاية الإنسان»، كما أن الكتاب ذاته امتدح كلام الله كما كتب: «كلمتك مصباحٌ لخطاي ونور لسبيلي».[[9]]

 

لغات الكتاب المقدس

العبرية: وهي لغة العهد القديم، وهي تدعى اللسان اليهودي

الآرامية: وهي اللغة الشائعة في الشرق الأوسط إلى أن جاء الإسكندر الأكبر.

اليونانية: لغة العهد الجديد، فكانت اللغة الدولية في زمن السيد المسيح.

 لقد كتبت أسفار العهد القديم بالعبرية التوراتية، وأسفار العهد الجديد باليونانية القديمة، ونتيجة انقراض كلا اللغتين، يدفع بمراجعات ترجمة المعاني دوريًا.

ترجمة الكتاب المقدس

  الكتاب المقدس من أوائل الكتب التي ترجمت، فقد ترجم الكتاب اليهودي من العبرية إلى اليونانية عام 250 ق.م فيما يسمى بالنسخة السبعينية، واستمرت ترجمات الكتاب المقدس منذ ذلك التاريخ، وقد ترجم منها إلى الآن أكثر من 1660 لغة ولهجة وهذه الترجمات الموجودة الآن في العالم.

تقسيم الكتاب المقدس:

ينقسم الكتاب المقدس إلى الأقسام الآتية:

1- الشريعة: من سفر التكوين إلى سفر التثنية.

2- التاريخ: وهذا القسم يبدأ بسفر يشوع وينتهي بسفر أستير.

3- الشعر: وهذا القسم يحتوى على الكتب الشعرية الخمسة وهي أيوب و المزامير (الزابور) و الأمثال و الجامعة و نشيد الأنشاد، حكمة سليمان، يشوع ابن سيراخ.

4- النبوة: وهي تنقسم إلى قسمين الأنبياء الكبار من أشعياء إلى دانيال، والأنبياء الصغار من هوشع إلى ملاخي.

5- البشائر (الاناجيل): وهي أربعة من متى إلى يوحنا.

6- الرسائل: ويعتبر سفر الأعمال مقدمة لها وتنتهي برسالة يهوذا.

7- الإعلان الأخير: وهو مبين بسفر الرؤيا آخر أسفار هذا الكتاب.

أما تقسيم الأسفار إلى أصحاحات وآيات، فقد أدخل على التراجم لتسهيل الفهم، فلم تكن أسفار الكتاب المقدس مقسمة إلى أصحاحات ولا أعداد بل كان كل سفر منها متصلًا من أوله إلى آخره، ولم يكن في كل هذه الأسفار علامات فاصلة بين الجمل كالنقطة بل كانت الكلمات ملتصقة ببعضها حتى كان السطر منها ككلمة واحدة، فدعت الحاجة إلى تقسيم الكتاب المقدس إلى فصول والفصول إلى فقرات، فشرع اليهود من قديم الزمان في تقسيم كل سفر من أسفار كتابهم (المسمى مسيحيا العهد القديم) إلى أجزاء صغيرة، وفي القرن الثالث بعد ميلاد السيد المسيح قسم عمونيوس (أمونيوس) الشماس الإسكندري الأناجيل الأربعة إلى عدة أجزاء، أما الذي قسم الكتاب المقدس إلى ما هو عليه الآن من الأصحاحات، فهو الكاردينال هوجو Cardinal Hugo de Sancto Caro - Hugh of St Cher في سنة 1240 ميلادية تقريبًا (الذي قام في الأغلب بعمل "فهرس الكتاب المقدس" للكلمات (concordance of the Bible)، وكذلك ستيفين لانجتون Stephen Langton، والذي تقسيمه هو في الأساس ما هو مُتبع حتى الآن. وأما تقسيم الأصحاحات إلى أعداد، فأول من أتاه في العهد القديم الراهب يجينوس الذي ترجم الكتاب المقدس إلى اللغة اللاتينية، وفى سنة 1545 قسم أصحاحات العهد الجديد إلى أعداد كما هي الآن روبرت اسطفانوس والمراد الأساسي من هذه التقاسيم سهولة المراجعة والوقوف على الشواهد المطلوبة من الكتب المقدسة، وهي مفيدة إلا أنها أحيانا تفصل من العبارات ما يجب أن يوصل.

أسفار العهد القديم ورموزها:

وتقسم إلى ثلاثة أقسام وهى:

(1) أسفار الشريعة:

الرمز

اسم السفر

 تك

التكوين

 خر

الخروج

 لا

اللاويين

عد

العدد

 تث

التثنية

 

(2) الأسفار التاريخية:

 يش

يشوع

قض

القضاة

را

راعوث

1 صم

صموئيل الأول

 2 صم

صموئيل الثاني

 1 مل

الملوك الأول

 2 مل

الملوك الثاني

 1 أي

أخبار الأيام الأول

 2 أي

أخبار الأيام الثاني

عز

عزرا

 نح

نحميا

 أس

أستير

 طو

طوبيا

 يهو

يهوديت

 1 مك

المكابيين الأول

 2 مك

المكابيين الثاني

(3) الأسفار الشعرية

أي

أيوب

 مز

المزامير

 أم

الأمثال

جا

الجامعة

 نش

نشيد الأنشاد

حك

الحكمة

 سي

يشوع بن سيراخ

(4) الأسفار النبوية:

(‌أ) الأنبياء الكبار (الذين كتبوا أسفار طويلة)

إش

اشعياء

إر

ارمياء

 مرا

مراثى ارمياء

حز

حزقيال

 دا

دانيال

(‌ب) الأنبياء الصغار (الذين كتبوا أسفارًا صغيرة)

هو

هوشع

يوء

يوئيل

 عا

عاموس

عو

عوبديا

 يون

يونان

مى

ميخا

نا

ناحوم

حب

حبقوق

 صف

صفنيا

حج

حجى

 زك

زكريا

 مل

ملاخى

 با

باروخ

أسفار العهد الجديد ورموزها:

وتقسم إلى ثلاثة أقسام وهى:

(1) الأسفار التاريخية:

 مت

إنجيل متى

 مر

إنجيل مرقس

 لو

إنجيل لوقا

 يو

إنجيل يوحنا

 أع

أعمال الرسل

(2) الرسائل:

 رو

الرسالة إلى أهل رومية

 1 كو

الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس

2 كو

الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس

غل

الرسالة إلى أهل غلاطية

 أف

الرسالة إلى أهل أفسس

 في

الرسالة إلى أهل فيلبي

 كو

الرسالة إلى أهل كولوسى

 1 تس

الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكى

 2 تس

الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكى

 1 تى

الرسالة الأولى إلى تيموثاوس

 2 تى

الرسالة الثانية إلى تيموثاوس

 تي

الرسالة إلى تيطس

 فل

الرسالة إلى فليمون

 عب

الرسالة إلى العبرانيين

 يع

رسالة يعقوب

 1 بط

رسالة بطرس الأولى

 2 بط

رسالة بطرس الثانية

 1 يو

رسالة يوحنا الأولى

 2 يو

رسالة يوحنا الثانية

 3 يو

رسالة يوحنا الثالثة

يه

رسالة يهوذا

(3) السفر النبوى:

 رؤ

رؤيا يوحنا

  هذه هي أقسام الكتاب المقدس من حيث أسمائها ورموزها ونجد أن كل سفر يتكون من مجموعة من الأصحاحات فعلى سبيل المثال سفر (كتاب) يونان (يونس) يتكون من أربعة (4) أصحاحات (سور) وكل إصحاح يتكون من مجموعة من الأعداد، أو الآيات يتكون منها السفر. [[10]]

ما هي الرواية الأساسية للكتاب المقدس؟

  صدرت جميع الكتب، التي كونت بعد ذلك في مجملها الكتاب المقدس، عن أناس مقتنعين بدرجات مختلفة بأنهم يؤرخون لتكوين شعب يحتل مكانًا في التاريخ بتشريعه ومبادئه في الحياة الفردية والجماعية ويحظى بعناية خاصة جدًا جدًا وفوق فوق العادة من خالق وصانع هذا الكون بكل ما فيه. نرى عبر جينولوجيا الكتاب وتشكله أن الرواية تركز على شهادة ما صنع الله بهذا الشعب وإليه، وتروي نداءات الله وردود فعل البشر (من تسابيح وشكر وتساؤلات).

  كان هذا الشعب الذي، طبقا للرواية الدينية، دعاه الله شعب إسرائيل أولاً، وقد ظهر في التاريخ في حوالي السنة 1200 قبل المسيح، ودخل في التقلبات التي هزت الشرق الأدنى حتى مطلع العهد المسيحي. تميزت الديانة الإسرائيلية بأنها لم تكن تعرف إلا إلهًا واحدًا لا يُرى ويفوق كل شيء، وهو الربُ. وكان شعب إسرائيل يعبر عن صلته باللّه بلفظ حقوقي هو العهد. وكان يُخضع وجوده كله لهذا العهد وللشريعة الناتجة عنه، فازداد نمط حياته تعارضًا مع نمط حياة سائر الأمم. فكل القسم العبري من الكتاب المقدس (المسمى مسيحيًا بالعهد القديم) يتعلق بهذا العهد كما عاشه إسرائيل وفكر فيه، أو بما يفترض أنه عاشه وفكر فيه، حتى القرن الثاني قبل المسيح.

  وبعد أن دُمُّرت أورشليم (القدس) في السنة 70 و135 بعد المسيح، عاشت الجماعات اليهودية التي غادرت فلسطين في أغلب الأحيان أحداث مضطربة، ومأسوية غالبًا. وكانت أغلب النزعات التي تحرّك هذه الجماعة مؤسسة على الكتاب اليهودي المقدّس وعلى الشريعة خاصةً، وهي تكرّمه على أنه كلمة الربّ. واليهود يقرؤونه ويبنون عليه ممارساتهم في إطار تقاليد (المفترض أنها) متأصّلة في حياة إسرائيل القديم، وُضعت بعد دمار المركز اليهودي قي أورشليم وكَوَّنت المِشنة والتلمود والمِدراش.

  في القرن الأول للمسيح، تشتُت اليهود ونشأت الجماعات المسيحية وانفصلت شيئًا فشيئًا عن الدين اليهودي. في نظر المسيحيين، تمّ تاريخ شعب الله في يسوع الناصري، ففيه جمع الله مختلف الشعوب لتكوين شعب يحكمه عهد جديد. وهذا العهد عهد نهائي يجعل من العهد الذي حكم إسرائيل مرحلة ضرورية، ولكن لا بدّ من تجاوزها. فوصفه المسيحيون بالعهد القديم وأطلقوا هذا الاسم على الكتب الصادرة عن إسرائيل، وأطلقوا اسم العهد الجديد على الكتب التي تتكلّم على يسوع ورسالته.

  أمّا تلاميذ يسوع وخلفاؤهم المباشِرون الذين دوّنوا، أو من المفترض أنهم دوّنوا، كتب العهد الجديد، فكانوا يرون في يسوع تحقيق آمال إسرائيل وما كان ينتظره سائر الناس، على الشكل المتَّخذ داخل هذا الشعب. فكانت كتاباتهم مشبعة بأسلوب وطريقة الكتب المقدّسة اليهودية بكل أبعادها التاريخيّة وخبرتها الدينية التي توافرت طوال القرون. والجماعة المسيحية التي جاءت بعدهم رأت في العهد القديم (الكتاب المقدس اليهودي) كلمة الله كما تراها في بشرى الانجيل. ولكن الكتاب المقدس اليهودي (العهد القديم) يتّخذ معنَّى جديدًا، عندما يقرأ في ضوء الإيمان بالمسيح يسوع.

  يرى المؤمنون بهذا الكتاب وقدسيته، أنه يدوّي صدى كلمة الله إلى الأقدمين وكلامهم إلى الله، حث يبحث المؤمنون به عن معنى حياتهم ويكتشفون الطرق المؤدّية إلى الله، فهم يرون أن الكتاب المقدُس هو كتاب شعب الله، ولكنه كتاب شعب لم يكتمل بعد.  

طبيعة الكتاب المقدس

  أسفار الكتاب المقدّس هي عمل مؤلُّفين ومحرّرين عُرفوا بأنهم لسان حال الله في وسط شعبهم. ظلّ عدد كبير منهم مجهولاً، لكنهم، على كل حال، لم يكونوا منفردين، لأن الشعب كان يساندهم، ذلك الشعب الذي يقاسمونه الحياة والهموم والآمال، حتى في الأيام التي كانوا يقاومونه فيها. معظم عملهم مُستوحى من تقاليد الجماعة. وقبل أن تتّخذ كتبهم صيغتها النهائية، انتشرت زمنًا طويلاً بين الشعب وهي تحمل آثار ردود فعل القرّاء، في شكل تنقيحات وتعليقات وحتى في شكل إعادة صيغة بعض النصوص إلى حد هامّ أو قليل الأهمية. لا بل أحدثُ الأسفار ما هي أحيانًا إلا تفسير وتحديث لكتب قديمة. [[11]]

  والكتاب المقدّس موسوم في العمق بثقافة إسرائيل. فقد كون هذا الشعب، كما كان لسائر الشعوب، طريقة خاصة في النظر إلى وجوده وإلى العالم الذي كان يحيط به وإلى الوضع البشري. وهو يعبّر عن نظرته إلى العالم، لا بفلسفة منظّمة، بل بعادات ومؤسسات وبردود فِعل عفوية عند الأفراد وعند الشعب كله، ومن خلال التراث والميزات الخاصة بلغته. لقد تطورت الثقافة العبرية على مّر القرون، لكن خلال هذا التطور شكلت وحافظت على عدد من الثوابت.

  وفي الكتاب المقدّس كلمات كثيرة تحمل ثمرة خبرة دينية دامت ألف سنة. ولا يمكننا أن ندرك ما فيها من أبعاد دون أن نأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية والاجتماعية التي أحاطت بالكتاب المقدّس. وهذا يبين لنا سبب الصعوبات التي نلقها اليوم في قراءة الكتاب المقدّس، فهناك مسافة بعيدة بينه وبيننا، من بُعدٍ في الزمان وفرقٍ في الثقافة وخاصة من مسافة يقيمها النص المكتوب عادة بين فكرة النص الأصلية والقارئ. ولتقصير هذه المسافة يستعان بالتفاسير، أي بشرح النص. ولكل عصر أساليبه، فالغرب شهد منذ قرنين أو ثلاثة تطور تفسير تاريخي تشبع بالرؤية الحداثية للعالم واقتبس أدواته من العلوم الحديثة والحضارة التقنية، ويهدف هذا التفسير الجديد أن يُثبت بدقةٍ نص الكتاب المقدس وأن يفهم بدقةٍ معنى الألفاظ وأن يضع النص في بيئته الأصلية.   

وأخيرًا.. لماذا الكتاب المقدس؟

  ما سبق كان محاولة مني لتقديم تعريف يتسم بالشمول والبساطة للكتاب المقدس عند المسيحيين واليهود، يصلح كمدخل لمن يتعرف على هذا الكتاب للمرة الأولى، لكي تكون خطواته الأولى نحوه على درجة ما من التبين والاحاطة بمتنه وتكوينه الرئيسي وطبيعته والظرف التاريخي العام الذي أحاط بخروجه للوجود. أتمنى أن تكون تلك المحاولة حققت ولو بعض من أهدافها لمن قرئها وتناولها، وأرجوا في الوقت ذاته أن تكون فيها إضافة لمن يعرف ذلك الكتاب وعلى دراية به من قبل.

  لقد راعيت قدر ما أستطيع أن يكون ذلك التقديم والمدخل علميا محايدا وغير منحاز لوجهة نظر معينة. لقد اعتمدت، كما هو واضح، على المصادر والمراجع المذكورة في الهوامش لكني أخص بالذكر منها المقدمة الواردة في الترجمة اليسوعيّة للكتاب المقدس ، ط3، دار المشرق. ذلك المقال مفتوح للتصحيح والتعديل بناء على تعليقات كل من يتناوله ويتفضل بتصحيح معلومة ما أو نقد قراءة وتحليل وارد به، أو ما يستجد لدي من معلومات أو رؤى، لكن بالطبع، لأن النص أنا المسئول عنه في النهاية، وعندما كتبته لم أكن خاضعا لشروط أي جهة أو مؤسسة ما، فإنني لن أعدل فيه بناء على أي تعليق كريم بتناوله إلا إذا كان ما ورد في هذا التعليق أو المراجعة مقنع لي شخصيا ولا يمس العلمية والحيادية التي أدعيها وأسعى للحفاظ عليها.

  وأخيرًا.. قد يطرح سؤال نفسه، لماذا الكتاب المقدس الآن؟

  لقد شددت في بداية هذا المقال أن مسألة القداسة تلك، خاصة بالنسبة للنصوص، مسألة نسبية، فلا يوجد نص يستطيع أن يفرض قدسيته لمجرد أنه يدعي ذلك، فأي نص لا يوجد في الفراغ، بل هو داخل في حوار أو حتى صراع، مع المتلقي المحمل بالضرورة بأفكار شكلتها ثقافة وظروف بيئية وتاريخية، فلا يوجد متلقي خالي من الخلفيات أو الأفكار، ثم إن أي نص يدخل أيضًا في حوار وصراع، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، مع نصوص قبله وحتى نصوص تأتي بعده، من تلك النصوص من يعارضه وينقده أو يقدم أفكار مختلفة عنه وبعضها أيضًا يدعي مثله القداسة وينازعه عليها. وقد بينت أنه حتى داخل الدائرة الابراهيمية، التي تشتق عقائدها من ذلك الكتاب بالدرجة الأولى، فإنه هناك خلاف حول مدى قداسة الكتاب المقدس ونقاش يرتفع إلى درجة الصراع حول أيًا من أجزائه تستحق التنزيه وأيها لا يستحق ذلك.

  لكن مع ما سبق، نظل أمام حقيقة أننا أمام نص تشكل العقائد المشتقة منه أكثر من نصف سكان المعمورة وقت كتابة هذه السطور، حتى ولو كان جزء كبير منهم يعتنقها أسميا فقط وليس ملتزم بها جديًا، وهذا في حد ذاته أمر يدفع إلى العودة لهذا الكتاب ومحاولة فهمه، حتى لو كان المرء لا يؤمن بحرف واحد فيه!! لقد كانت المنطقة التي انبثقت فيها ثم انتشرت العقائد الابراهيمية غنية جدَا بأشكل مختلفة من الأديان واللاهوت، وما حدث أن التشكلات العقائدية-اللاهوتية الابراهيمية استطاعت أن تزيح ما سبقها وتخلي الساحة لوجودها، وتصيغ وتصنع وتقود، بدرجات مختلفة، عبر آلاف السنين نفسية وعقل بلايين من البشر. قد يقول قائل، أن الأمر يعدوا إلى الصدفة التاريخية بالدرجة الأولى، والمناخ الإمبراطوري الذي ساد المنطقة دفع بالضرورة إلى السعي إلى التوحيد العقائدي، وهي إجابة لا تخلو من الوجاهة بالتأكيد، لكنها ليست كافية أبدًا.

  الإجابة على سؤال لماذا وكيف استطاعت العقائد الإبراهيمية أن تنبثق وتوجد ويكون لها هذا التأثير التاريخي الواسع والمتجذر حتى وقتنا هذا؟؟ تحتاج إلى دراسة، أو دراسات، تاريخية أنثروبولوجية فلسفية اجتماعية موسعة ملتزمة لحد كبير بالمنهج والصرامة العلمية وما ينتج عنهم من موضوعية[[12]]، ولا أدعي أنني أقدم مثل تلك الدراسة أو حتى أسعى لبلورتها وتأليفها، الآن على الأقل. لكن هذا السؤال كان من الدوافع الأولى والاساسية لي لتناول الكتاب المقدس، وأعتقد أنه دافع أساسي أيضًا لكل مهتم بالظاهرة الإنسانية وتشكلها التاريخي ليهتم بهذا الكتاب، سعيا لوعي إنساني ذاتي وموضوعي أكثر وضوحًا وعمقًا واتساعًا.

  بالنسبة للمؤمن فإن الكتاب المقدس يتكلم فيه الله إلى الانسان، وهذا ما يثبته مؤلفوه: "ليس كلامًا فارغًا لكم، بل هو حياة لكم" (تث 32/47). وبالنسبة للمؤمن المسيحي بالذات فمحوره الأول يسوع المسيح والنبوءات حوله وكلماته وأفعاله " أمّا الآياتُ المُدوّنَةُ هُنا، فهيَ لتُؤمِنوا بأنّ يَسوعَ هوَ المَسيحُ اَبنُ اللهِ. فإذا آمنتُم نِلتُم باَسْمِهِ الحياةَ" (يو 20/30 – 31). لكن حتى بالنسبة لغير المؤمن فهو كنزًا أدبيًا قديمًا وذخيرة وثائق عن الأفكار الدينية والأخلاقية الخاصة بشعب من الشعوب، قدر لها أن تنتشر على نحو واسع بين سكان المعمورة وتشكلهم ايديولوجيًا وثقافيًا بدرجات وأشكال مختلفة. فالكتاب المقدس مفتوح على التذّوق الأدبي والبحث في التاريخ القديم، والدخول في حوار مع أولئك المؤلّفين الذين يشهرون إيمانهم ويدعون إلى اعتناق عقائدهم.

 

 



[[1]] https://en.wikipedia.org/wiki/List_of_religious_populations.

[[2]] الكتاب المقدس، الترجمة اليسوعيّة، ط3، دار المشرق، بيروت/لبنان 1994، ص29.

[[3]] ستيفن م. ميلر وروبرت ف. هوبر، تاريخ الكتاب المقدس (منذ التكوين وحتى اليوم)، ط1، دار الثقافة الجديدة، القاهرة/مصر 2008، المقدمة (ص7).

[[4]]الكتاب المقدس، ويكيبيديا (الموسوعة الحرة)، https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%AF%D8%B3

 

[[5]]أقسام الكتاب المقدس ومعلومات عنه..، موقع الأنبا تكلاهيمانوت القبطي الأرثوذكسي، https://st-takla.org/FAQ-Questions-VS-Answers/01-Questions-Related-to-The-Holy-Bible__Al-Ketab-Al-Mokaddas/001-What-is-the-Holy-Bible.html

  

[[6]]الكتاب المقدس، ويكيبيديا (الموسوعة الحرة)، https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%AF%D8%B3

 

[[7]]ستيفن م. ميلر وروبرت ف. هوبر، تاريخ الكتاب المقدس (منذ التكوين وحتى اليوم)، ط1، دار الثقافة الجديدة، القاهرة/مصر 2008، المقدمة (ص7).

 

[[8]]أقسام الكتاب المقدس ومعلومات عنه..، موقع الأنبا تكلاهيمانوت القبطي الأرثوذكسي، https://st-takla.org/FAQ-Questions-VS-Answers/01-Questions-Related-to-The-Holy-Bible__Al-Ketab-Al-Mokaddas/001-What-is-the-Holy-Bible.html

 

[[9]]الكتاب المقدس، ويكيبيديا (الموسوعة الحرة)، https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%AF%D8%B3

 

[[10]]أقسام الكتاب المقدس ومعلومات عنه..، موقع الأنبا تكلاهيمانوت القبطي الأرثوذكسي، https://st-takla.org/FAQ-Questions-VS-Answers/01-Questions-Related-to-The-Holy-Bible__Al-Ketab-Al-Mokaddas/001-What-is-the-Holy-Bible.html

 

[[11]] الكتاب المقدس، الترجمة اليسوعيّة، ط3، دار المشرق، بيروت/لبنان 1994، ص30.

[[12]] بالتأكيد توجد حاليًا دراسات عديدة تناولت هذا السؤال، ولو بصيغة مختلفة، ملتزمة بالمنهج العلمي لكني لست محيطًا بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق