الديوان الإسبرطي.. قراءة نقدية
شادي عمر الشربيني
-
الديوان
الإسبرطي رواية للروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي.
-
صدرت الرواية
لأوّل مرة في العام 2018 عن دار ميم للنشر في الجزائر.
-
عدد
صفحات الرواية: 388 صفحة (بالفهرس) مقسمة على 5 أجزاء.
- حازت على الجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2020.
أعلنت
لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر العربي" 2020 مساء
اليوم الثلاثاء 14 أبريل، عن الفائز بالدورة 13 للجائزة، وهو الكاتب الجزائري عبد
الوهاب عيساوي عن روايته "الديوان الإسبرطي"، وبذلك يكون أول جزائري
يفوز بالجائزة. وتقدر القيمة العينية للجائزة بـ 50 ألف دولار أمريكي، كما ستحظى
الرواية بعد التتويج مباشرة بترجمة إلى اللغة الإنجليزية من قبل المؤسسة الأمBooker Prize Foundation .
وكانت
هذه الرواية قد انضمت، منذ فبراير 2020، إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، جنباً
إلى جنب مع روايات "حطب سرايفو" لسعيد خطيبي من الجزائر،
"فردقان" ليوسف زيدان من مصر، "ملك الهند" لجبور الدويهي من
لبنان، "التانكي" لعالية ممدوح من العراق و"الحي الروسي"
لخليل الرز من سوريا.
ولاحظ
عدد من النقاد الأدبيين أن الدورة 13 للجائزة قد تميزت بهيمنة جلية للرواية
الجزائرية، وذلك منذ الإعلان عن صدور القائمة الطويلة للبوكر، والتي ضمت أربع
روايات وهي: "حطب سرايفو" لسعيد خطيبي، "سلالم ترولار" لسمير
قسيمي، "اختلاط المواسم" لبشير مفتي، إضافة إلى "الديوان
الإسبرطي". ربما يعكس الأمر قرار مسبق ما بمنح روائي جزائري الجائزة هذا
العام، فيما هو نوع من السياسة المضمرة لتوزيع جائزة "البوكر العربي" بين
البلدان العربية اتقاء لاتهامات بالانحياز لبلد عربي معين أو أكثر إذا توزعت بين رواءيها
الجائزة.
في
جواب عن سؤال وجهه له رصيف22، يقول الكاتب الجزائري بشير مفتي، الذي كانت روايته
"اختلاط المواسم" ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر للسنة الحالية:
"إن رواية الديوان الإسبرطي تستحق الفوز لكاتب يستحق ذلك". وقد علل بشير
مفتي الحضور الظاهر للرواية الجزائرية الحديثة في البوكر بقوله: "هذه هي
المرة الأولى التي تصعد فيها أربع روايات للقائمة الطويلة، بينما كان الأمر يقتصر
في السابق على رواية أو روايتين، وأحياناً لا تظهر أية رواية.. على العموم،
الجزائر أرض الرواية بامتياز، وليس غريباً أن تكون أول رواية كتبت في تاريخ
الإنسانية، الحمار الذهبي لأوبلويوس، رواية كاتبها جزائري. وقدمت الجزائر أسماء
روائية كبيرة، سواء بالفرنسية أو العربية، من كاتب ياسين إلى مالك حداد ومحمد ديب
وآسيا جبار والطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة. وبالنسبة للروايات الأربع، فهي
تعكس تاريخ الجزائر القديم والمعاصر وهموم الجزائريين بأشكال سردية مختلفة بين
كاتب وآخر".
وفي
خطاب تصريحه بالجائزة، الذي نشر على "اليوتيوب"، بعد إلغاء الحفل، بسبب
المخاوف من عدوى "فيروس كورونا المستجد"، صرّح محسن الموسوي، رئيس لجنة
التحكيم، قائلاً: إن رواية الديوان الإسبرطي في استجلائها تاريخ صراعات منطقة
المتوسط كاملة، تعدّ بمثابة "دعوة القارئ لفهم ملابسات الاحتلال وكيف تتشكل
المقاومة بأشكال مختلفة ومتنامية لمواجهته. هذه الرواية بنظامها السردي التاريخي
العميق لا تسكن الماضي بل تجعل القارئ يطل على الراهن القائم ويسائله".
أما
ياسر سليمان، رئيس مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية فقد قال، مشيداً
بأحقية العمل الفائز: "تسحرك رواية الديوان الإسبرطي.. وتسير بك في شوارع
الجزائر المحروسة ومرسيليا وباريس، وكأنك تعاينها بنفسك في زمن مضى ولم تنقطع
مآلاته، وتحتكّ بالتركي والأوروبي والعربي وغيرهم من الأقوام، متعاطفاً وساخطاً في
آن واحد".
ويكشف
هذا الفوز المستحق عن جدارة، الرواية الجزائرية بما بلغته من ثراء وغزارة في
الإنتاج. وحتى تثبت قيمتها الفنية، مرت رواية "الديوان الإسبرطي" لعبد
الوهاب عيساوي بعدة لجان قراءة، مؤلفة من كتاب ونقاد وأكاديميين متمرسين، مثل
الناقد العراقي محسن جاسم الموسوي، الصحافي اللبناني بيار أبي صعب والباحثة
والمترجمة الروسية فيكتوريا زاريتوفسكايا، وغيرهم من الوجوه اللامعة في مجال
الأدب.
الجانب_الفني_واللغوي:
نقل
الكاتب روايته باستعمال تقنية سرد جيدة، حيث جعل أبطاله الخمسة يتناوبون على
الحديث، أو ما يسمى “الرواية البوليفونية” أي متعددة الأصوات، وهذا كما يقول
النقاد فيه دعوة لدمقرطة الرواية، بحيث تعطي لأشخاص يملكون إيديولوجيات مختلفة
مساحة واسعة للتعبير عن وجهة نظرهم. لكن يقول أحد النقاد أن الكاتب كان يقمع الصوت
المخالف، فهو في رأيه لم يعطِ للطرف التركي أو البَنِي عثماني أي فرصة للدفاع عن
نفسه والتعبير عن آرائه، بل اختار شخصيات تخدم توجها فكريا معينا.
الجانب التأسيسي للرواية :
في
حوار أجراه معه الموقع الإلكتروني للبوكر العربي، يزيح الكاتب الستار عن الجهد
الكبير الذي بذله لتأسيس بناء روايته التاريخية، باعتباره جنساً أدبياً عصيّاً،
يعتمد بالأساس على النبش والتقصّي، تكثيف الرحلات وجمع التقارير العسكرية. فلقد
أُجبر مثلاً على قراءة أزيد من سبعين كتاب تتمحور حول موضوعه المعنيّ والمخطط له،
كما ركّز أساساً على ما أهملته الروايات الرسمية و"على شخصيات تاريخية لا
يعرف عنها المثقف إلا القليل". أما فيما يتعلق بتبريره لاتباع حبكة سردية
معقدة، فيوضح عيساوي قائلاً إنه حاول "تقديم الحكاية من منظور وحيد.. لكنّ
البنية البوليفونية تشتغل على مناظير متعددة، تروى الحكاية من زوايا مختلفة،
وتتعدد الخطابات المتباينة".
المؤلف:
في الرواية خمس شخصيات تتشابك في فضاء زمني ما
بين 1815 إلى 1833، في مدينة المحروسة، الجزائر.
-
دوجة: فتاة تهرب
للمحروسة طمعا في حياة أفضل. لكن تُجْبرها ظروف المحروسة للتخلي عن أحلامها والعيش
بقوانين المدينة.
أحداث الرواية
تجاوز
رواية “الديوان الاسبرطي” الرواية التقليدية الباحثة عن البطولة المطلقة، لتجعل كل
الشخصيات تدور في فلك بطولة المكان المتمثل في المحروسة/ الجزائر، وهي مركز
الأحداث والوقائع التي ترد على ألسنة الشخصيات الروائية التي اختارها الكاتب، فكل
شخصية تعبر عن موقفها من المحروسة. ورغم ثمة أماكن أخرى (باريس، طولون، مرسيليا)
ترد في السرد إلا أنها تأتي لتكمل مشهد المحروسة وتفاعلات احداثها، وما تواجهه من
كوارث ومصائب ناتجة عن الغزو الفرنسي للجزائر/ المحروسة.
يقوم
البناء السرد على تقنية تعدد الاصوات، فنجد ثمة خمس أصوات أربعة رجال وامرأة،
اثنان منهم يمثلان فرنسا، وثلاثة يمثلون الجزائر، وقد قسم الكاتب روايته إلى خمسة
أقسام، وكل قسم يتناوب على سرده خمس شخصيات، كأن الكاتب أراد أن يبرز أن لكل شخصية
قسم من السرد، ولكن السرد توزع بينهم، فجاء القسم موزعا بين ديبون، وكافيار، وابن
ميار، وحمه السلاوي، ودوجة، وهكذا في الخمسة أقسام. جميعهم يدورون في فضاء زماني
للسنوات الثلاث الأولي من احتلال الجزائر 1830 إلى 1833، وهذا ما أظهره الكاتب في
فصول الرواية حيث سجل تاريخ حديث الشخصية إلى جانبها في العنوان، ولكن ثمة فضاء
زماني يشعر به القارئ في ثنايا السرد يعود إلى سنوات الاحتلال التركي ومن خلال
تبدل الباشوات على حكم الجزائر. ويكشف الكاتب عن السياسة التي اعتمدها ونهجها
الأتراك والفرنسيون في استعمارهم للجزائر، ومرارة العيش التي عاشها وقاساها الشعب
الجزائري آنذاك.
ان
الشخصيات السردية في الرواية تم رسمها بعناية، وتعبر عن مواقف سياسية واجتماعية
وإنسانية، وتنوع الحوار ما بين السرد بضمير الانا، وضمير الغائب، والسرد الباطني
أو مناجاة النفس. فنجد شخصية (ديبون) الصحفي الفرنسي المتعاطف مع الشعب الجزائري،
وهو الذي يكتب تاريخ الحملة على الجزائر، يقف في تعارض كامل مع شخصية (كافيار)
الذي يمثل الاحتلال الفرنسي والشخصية الحاقدة لكل ما هو عربي وتركي، تلك الشخصية
التي تعاني الهزيمة فقد شارك في معركة واترلو إلى جانب نابليون الذي هزم على أيدي
الانجليز، وكذلك تعرضه للاعتقال لدى الاتراك في الجزائر ومعاملته كالعبيد، فبقيت
اثارها النفسية على شخصيته، ودلالاتها في سلوكه مع الأخرين، اما شخصية (ابن ميار)
فتمثل الشخصية الجزائرية المدافعة عن القضية الجزائرية بالطرق السلمية، يتعاون
ويحالف ويواجه مشاكل الاتراك في الآن نفسه، ثم يقف في وجه الفرنسيين بالعرائض
والمناشدات، لذلك يتعارض مع شخصية (السلاوي) الذي يسعى للدفاع عن الجزائر بالكفاح
المسلح والعنف، ويلومه على قتل شخصية “المزوار” التي ترمز إلى الشخص المتعاون
والمتقلب مع كل السلطات، واذا كانت السلطات الفرنسية نفت “ابن ميار” إلى اسطنبول،
فقد التحق “السلاوي” بجيش الامير المدافع عن الجزائر، اما شخصية (دوجة) فتمثل
شخصية المرأة الجزائرية التي انتهكت وانهكت كرامتها على أيدي الاتراك ثم
الفرنسيين، حيث يقتل كافيار الفرنسي والدها، ويموت أخوها لأنه لم يجد العلاج، وهي
مرتبطة بعلاقة حب مع “السلاوي”، فترفض الرحيل مع “ابن ميار” وزوجته “لالة سعدية”،
وتبقى في الجزائر في بيت “لالة زهرة” في انتظار عودة “السلاوي” بعد التحاقه بجيش
الامير.
ورغم
توزع السرد بين خمس شخصيات أساسية، فثمة شخصيات ثانوية ساهمت في اكتمال دور هذه
الشخصيات (المزوار، لالة سعدية، لالة زهرة، عائلة دوجة، الباشا العثماني، الحكام
الفرنسيين). نحن أمام رواية لا تسكن في الماضي، إنما تستشرف المستقبل، عبر رؤى
وأفكار تحمل الكثير من قيم الحرية والبحث عن العدالة، في الرسائل التي حاول الكاتب
أن يوصلها من خلال شخصياته الروائية.
يفتتح
عيساوي روايته بنصّ للشاعر الألماني غوته من "الدّيوان الشرقيّ"، حول المائدة
التي يقدّمها كلّ من الشرق والغرب "الشّرقُ والغربُ على السَّواء/ يُقدّمان
إليك أشياءَ طاهرة للتذوّق/ فدَعْ الأهواءَ، ودَعْ القشرة/ واجلسْ في المأدُبة
الحافلة/ وما ينبغي لك، ولا عابراً/ أن تنأى بجانبك عن هذا الطّعام". هذا
الاقتباس يمثل هدف الكاتب من كتابة الرواية إلى حد كبير.
وإذ
يجوز القولُ إن الروائيّ يقوم بتوظيف مادّة تاريخية موزّعة على السنوات بين 1815
و1833، أي الفترة ما بعد هزيمة نابليون في معركة واترلو الشهيرة، وبين مرور ثلاث
سنوات على غزو فرنسا للجزائر واحتلالها، فإن الحادثة التاريخية الأبرز في الرواية،
والتي يستند الفرنسيون عليها في تبريرهم وتعليلهم ذلك الغزو، هي حادثة
"المَروَحة"، التي صفَع بها الباشا حسينُ العثمانيّ قنصلَ فرنسا في
الجزائر، بسبب ما اعتبره الباشا "وقاحةً" في ردّ القنصل دوفال عليه، حين
سأله عن عدم تجاوب الملك الفرنسي مع رسائله بخصوص دَين لتركيّا على فرنسا، فقد ردّ
القنصل بما معناه أن الملك لا وقت لديه للرد على "أمثال" الباشا، فما
كان من هذا إلّا أن رماهُ بالمروحة.
ثمّ إن الباشا هذا، ظلّ لسنوات يرفض
الاعتذار عمّا اعتبرته فرنسا إهانة لها، من خلال إهانة قُنصلها، فحشدت أساطيلها
وقادتها العسكريين وقامت بحملتها "لتخلّص الجزائر من الاضطهاد العثماني"
بحسب التبريرات التي صدرت من غير مصدر فرنسيّ، ومنها قائد عسكري كبير (بورمون)
يؤمن بالحرية والعدالة للشعوب. فهل كانت هذه الحادثة، وحدَها، كافيةً للقيام
بالغزو والاحتلال لمدة مائة وثلاثين عامًا وأكثر؟ أم أنها كانت مجرد ذريعة لتنفيذ
مخطّطات مسبقة؟!
الرواية
لا تقول بشكل مباشر ما إذا كانت تلك الحادثة هي "السبب"، أو أنّها قد
تكون سبباً مباشراً في الغزو، لكنّها ترصد سلوكيّات الدولة العثمانية في العالم
آنذاك، حيث كانت، وباسم الدِّين الإسلاميّ، تتمدّد على رقعة واسعة من المعمورة،
وتقوم بفرض "الإتاوة" على الحركة في المياه الدوليّة، عبر ما يدعوه
الفرنسيّون "عصابات البحار". لكن الدولة ذاتها، وفي الوقت نفسه، كانت قد
بدأت تعاني "الشيخوخة" بعد قرون من "استعمارها" لدول في
المشرق والمغرب، كما أنها، وكما تظهر في الرواية، إمبراطورية تعاني أشكالاً متعددة
من الفساد، وصُورًا من الاضطهاد للشعوب التي تستعمرها. وبحسب الرواية أيضاً، فإن
ما يجعل هذه الشعوب ترضخ لحكم السلطان العثمانيّ الجائر، هو "الشّراكة"
في الدِّين الإسلاميّ فقط.
تكشف
الرواية عن الاسباب الحقيقية لاحتلال الجزائر، دون أن يستبعد السبب المدرج في
التاريخ، واقعة المروحة، ورغم اعتذار الباشا وتدخل أخرين للصلح، إلا أن فرنسا لم
تتراجع عن موقفها. وهنا يأتي السبب الحقيقي أو الرؤية الاستعمارية لفرنسا، حيث
يأتي على لسان “كافيار” أنه كان يعمل وفق رؤية نابليون الذي كان لديه النية في غزو
الجزائر لولا هزيمته في واترلو، لذلك كان يرسل الجواسيس إلى الجزائر ومن بينهم
كافيار لجمع المعلومات عن كل ما يتعلق بالجزائر من سكان وقبائل، ورسم خرائط لكل
شوارع الجزائر واحيائها ومساراتها لكي يسهل عليهم التحرك فيها عند غزوها، وما كانت
حادثة القنصل إلا سبب ظاهري للغزو. يقول ديبون: “أسال بعض العابرين عن الاتراك وعن
أسباب الحملة عليهم، يرددون مثلما يردد السياسيون: قد أهين شرف الفرنسيين حينما
ضرب القنصل بمروحة الباشا، ولن تسمح غيرة هذه الأمة باستعباد المسيحيين في أراضي
المحمديين”. تلك هي الثقافة التي رسخوها في عقول شعوبهم، بأن المسيحيين عبيدا لدى
الاتراك المسلمين، وقد كان كافيار في أحاديثه يركز دائما على قضية اضطهاد
المسيحيين وتحويلهم الى عبيد عند الاتراك المحمديين، كأن الخلاف بين الاسلام
والمسيحية، لذا جاء البابا مباركا غزو الجزائر استكمالا للحملات الصليبية على
العالم العربي.
عالم يحكمه الشيطان
بدأ
الرواية مع الصحافي الفرنسي ديبون، في مرسيليا مارس 1933، يتلقّى رسالة ممّن كان
يُفترض أنه صديقه كافيار، المتحمس لاحتلال الجزائر والانتقام من شعبها واستعباده، رسالة
كافيار هذه يُظهر فيها ديبون مجرّد شخص ممتلئ بالأوهام، وينصحه بالتخلّي عن أوهامه
المتعلّقة بحُريّة الشعوب، وهي هنا الشعب الجزائريّ.. إذ أنّ كافيار هذا يعتقد
بتخلّف الشّعوب وحاجتها إلى "التحضير"، لكنّه الذي يضع الخطط للمعارك
والقتل والتدمير، وتحويل المساجد إلى ساحات عامّة أو كنائس. وقد أبدع المؤلّف في
بناء شخصيته على النحو الذي تظهر فيه، خصوصاً نظرته "الاستشراقيّة"
النمطيّة الكارهة لكلّ ما هو عربيّ (وتركيّ)، ربّما نتيجة عذاباته في سجون
الأتراك، كما نفهم من مخاطبة صديقه ديبون قائلاً له إنك "تؤثِر الانتصار
لروحك التي عبّأتْها سنواتُ الأسر والعُبوديّة بمشاعر مُظلِمة".
تجارة العِظام
البشريّة
منذ
البداية، نقف على مشاهد الرعب المتمثّلة في المتاجرة بالعِظام البشرية، التي يحتاج
إليها أصحاب مصانع السُّكَّر "يستعملونها لتبييضه"، هذه العظام التي
سيكشف عنها الصحافيّ ديبون، برفقة طبيب متخصّص، في سفينة قادمة من الجزائر، وسيكتب
عنها تقريره المثير لصحيفته "لوسيمافور دو مرساي"، الصحيفة التي أرسلته من
قبل مراسلاً مع حملة غزو الجزائر. وفي الجزائر سنتابع عمليّات نبش القبور للحصول
على هذه العِظام، جماجم أطفال وسيقان كهول.
في
الجانب العربي، تبرز شخصيّات ابنُ ميّار والسلّاوي ودُوجة، وهي ذات تأثيرات متفاوتة
في الرواية وحوادثها، ففي ظل ممارسات القمع والاضطهاد، من العثمانيين أوّلاً، ثم
الفرنسيّين الذين يُظهرون من العنف أكثر ممّا يُتوقّع من هؤلاء
"المتحضّرين"، يبدو مجتمع "المحروسة"، التي ستُعرف لاحقًا
باسم "إسبرطة" بسبب حجم العَسكرة الهائل فيها، حيث تقع حوادث الرواية،
مُجتمعًا خانعًا وبلا أيّ مقاومة تُذكر، سوى بعض المعارك والمناوشات، فهي غدَت
ثكنة واقعة بين نيران العثمانيّين والفرنسيّين، بعد أن كانت تبدو وادعة وسعيدة إلى
حدّ ما، الأمر الذي يُذكّر بإسبرطة اليونانية التي تحوّلت ثكنة عسكرية مسكونة
بالموت، إنّها "إسبرطة الأفريقية"، لا اليونانية، كما ترِد على لسان
الصحافيّ ديبون. وحتّى بعد توقيع العثمانيّين على وثيقة استسلام ورحيل، فإنّ
الفرنسيّين لم يحترموا العهد الذي وقّعوا عليه، وكان يتضمّن عدم الاعتداء على حياة
الناس وأموالهم ودور عبادتهم، فقد فعل الفرنسيّون نقيض ذلك، ومارسوا كلّ المحرّمات
من نهب وقتل وتدمير.
القتل انتقاماً
الفِعل
البارز، الذي يقوم به السلّاوي، هو قتل "المِزوار" كبير القوّادين في
شارع "المبغى"، وهو يقتله انتقاماً لحبيبته دُوجة أساساً، دُوجة التي
اضطرّت، لفترة من الوقت ولظروف قاهرة، أن تعمل كـ"مومس"، وتعرّضت
للاضطهاد أيضًا من قبل المِزوار، كما بعد الاحتلال الفرنسي أنتقل المزوار للعمل
لحساب الفرنسيين فرأى السلّاوي ضرورة التخلّص منه. قبل ذلك كنا نجد حضوره في
مشاغباته المقاومة للعثمانيين وتحريضه المستمر لأهالي المحروسة من أجل أن يتخلصوا
من سيطرتهم، وبعد ذلك اشتراكه في التصدي للنزول الفرنسي على أرض الجزائر واصابته
أثناء ذلك إصابة كادت تودي بحياته، ثم في تنقُّله ورحلاته بحثاً عن "الأمير
الشابّ" الذي قيل إنّه سيقود ثورة ضد الاحتلال الفرنسيّ، لكنّنا لا نراه
روائيّاً في أيّ مشهد أو حادث، بل نسمع عنه. وفي ما يتعلق بشخصيّة ابن ميّار، ففي
ما عدا كتابته للعرائض إلى الملك الفرنسيّ لوقف الأعمال الهمجيّة للعسكر، فهو يمثل
التاجر ذا المصالح الذي كان على علاقة جيدة مع العثمانيين من قبل، فهو على استعداد
دائم للقبول بكل مساوئهم وتجبرهم وتسلطهم مقابل ما يقرونه من حماية واستقرار في
أرض المحروسة، وأخيرا فإنه مع مقدم الفرنسيين فإنه يستنجد بحماية الخلافة التي لم
تسعفه أو تمد اليد للجزائر، فيسعى بعد ذلك إلى يخرج الفرنسيين من بلاده ولكن عبر
العرائض والتظلمات وفضح ما حدث من نقض الفرنسيين لتعهداتهم أمام السلطة العليا في
باريس، ونشر كتاب يفضح التعديات الفرنسية المرعبة.
فنحن أمام شخصيات أبدع المؤلّف أيضًا في بنائها، بعناصر ومكوّنات تجعل من
كلّ منها كائنًا بشريّا من لحم ودم ومشاعر وأحلام وآلام وعذابات.
خاتمة الرواية
يُنوّع
الروائيّ الشابّ عبد الوهاب عيساوي (مواليد الجلفة 1985) في أساليب السرد،
مستخدماً لغة التقرير حيناً، والكثير من الحوارات بين الشخوص تارة، ولا تغيب عن
العمل لغة التأمّلات في الواقع اليوميّ والحياة والوجود، وخصوصًا لدى شخصيّة مثل الصحافيّ
ديبون، وغيره. كما تظهر في الرواية صورة من صور كتابة اليوميّات والتقارير
الصحافيّة واللوحات التي تضمّ ما يشبه بورتريهات للأشخاص، بعضُها ذو طابع
تراجيديّ، والآخر هَزْليّ.
تنتهي
الرواية برحيل السلّاوي بحثًا عن الأمير الشابّ، واعدًا حبيبته دُوجة بالعودة لكي
يتزوّجا، ما يعني أن الروائيّ أراد التخلّص من هذا الموقف، ثمّ الانتهاء بشخص ابن
ميّار منفيّاً وزوجته، بقرار من كافيار، إلى إسطنبول، والغريب أنه وزوجتَه، ورغم
وطنيّتهما، فقد كانا يبدُوان سعيدَين بهذا النفي إلى "مدينة جميلة
كإسطنبول".
3- مراجعة نقدية
الرواية التاريخية
|
الروائي يستغرق المؤرخ ويتجاوزه، فالحدث الذي
يصلبه المؤرخ على جدران الزمن وحيد تحرره الشخصيات الروائية وتضعه في أزمنةٍ
متعددة، فالروائي يذهب إلى وثائق المؤرخ المتعددة ويخلقها شخصياتِ متحاورة، تنقض
أحادية القول التاريخي بأقوال متعددة مراجعها التأمل والاحتمال، فعلم التاريخ
يحدث غالبًا عما كان، في حين تتناول الرواية ما كان يجب أن يكون، محررة الماضي
من قيود القراءة الوحيدة، وعاطفةً مبادئ الأخلاق على المعارف الواضحة والغائمة. |
يقول
ويل ديورنت في كتاب “مباهج الفلسفة” متحدثا عن فلسفة التاريخ:
|
إنّ في أذهان المؤرخين، بعض العقائد الدينية
يرغبون في إثباتها، أو برنامج حزب سياسي يَودون إعلاء شأنه، أو وَهْم وطني
يُريدون فرضه .. إنّ ثمانين في المائة من جميع التاريخ المدوَّن أشبه بالكتابات
الهيروغليفية، فهو موجود لتمجيد جلائل أعمال الملوك والكهنة |
ويصِر
بندتو كروتشي (الفيلسوف الإيطالي) على أن التاريخ يجب أن يكتبه الفلاسفة، لأن
الفلاسفة _حسب زعمه_ يتعشقون الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة.
ماذا
لو أراد روائي أن يكتب التاريخ؟! يقول لنا كروتشي: «لا تاريخ بلا قص». تخيّلوا
مثلا أننا نود كتابة تاريخ بلدية من بلديات الوطن، فبدل أن نكتب التاريخ بلسان
رئيس البلدية نجعل بواب البلدية أو عاملة النظافة يسردان لنا تاريخها، فهؤلاء
يملكون أسرارا عن البلدية لا يمكن أن يبوح بها رئيس البلدية.
القص
عمل فني بديع يعيد بناء المشاهد باستعمال التخييل ويجعلنا نعيش ذاك التاريخ وكأننا
جزء من وقائعه.. فعلا على التاريخ أن يكتبه الروائيون الأمناء.. فهل كان كاتبنا
روائيا أمينا؟!! هذا السؤال متروك لقارئ الرواية بالدرجة الأولى ويمكن أن يساعده
في ذلك الرجوع إلى المتخصصين أو الكتب التاريخية، أما ما نحن بصدده الآن هو تلمس
ما الذي أراد الكاتب أن يقوله من خلال روايته.
ماذا يقصد الكاتب
بالديوان الإسبرطي؟
يأتي
السؤال ماذا يقصد الكاتب بالديوان الإسبرطي؟، ولماذا اختار هذا الاسم عنوانا لروايته؟
لقد جاء العنوان متساوقا مع السرد، ومعبرا عن دلالات الأحداث والوقائع. واستند
الكاتب في اختيار عنوان روايته إلى التاريخ ليبرز عمق المأساة التي عاشتها الجزائر
في ظل الاحتلال الفرنسي. إسبرطة هي دولة مدينة في اليونان القديمة تأسست حوالي عام
900 قبل الميلاد، غزاها الدوريون عام 650 قبل الميلاد، أصبحت النزعة العسكرية
مهيمنة على هذه المدينة الدولة في اليونان القديمة. تعد من أقوي الدويلات إبان حكم
الدورين الغزاة الذين نافسوا أثينا، وكان الإسبرطيون محاربين، بل اشتهرت إسبرطة
بمجتمعها العسكري الذي ينشأ أبناءه بصفة أساسية على القتال.
لقد
كانت الجزائر هي الجحيم الذي أخاف أوربا لثلاثة قرون، كانوا يطلقون عليها مدينة
القراصنة، وصوروها بصورة مخيفة، صورة من القصص الخرافية التي أذهلت “ديبون” حين راها
مخالفة لتلك القصص التي كان يزرعوها في عقول العامة من الاوروبيين، فقد راها مدينة
جميلة الشكل، يتناقض مع كل الصور التي رسموها في مخيلة الناس والجنود في أوربا.
كان
الكاتب مدركا لهذه الاسئلة، فحاول أن يقدم للقارئ مقارنة بين إسبرطة القديمة
والجزائر، ولكن من خلال رؤية “كافيار” الفرنسي الذي كان يصر دائما أمام “ديبون” أن
يطلق على المحروسة اسم إسبرطة، ويعتبرهم برابرة همجيون.
أثناء اقامة “ديبون” و”كافيار” في غرفة سفينة واحدة من سفن الغزو، يقول ديبون: “استيقظت في آخر الاسبوع رأيته يتمطى غير بعيد عني، يطالع كتابا مختلفا، أقرأ عنوانه، وأصعد إلى السطح متناسيا ما قرأته، وظهر العنوان فجأة يحاصرني: الديوان الإسبرطي، ما الذي يحويه ذلك الكتاب؟ هل هو سيرة لمدينة إسبرطة؟ وربما ثقافة صديقي تتسع حتى تشمل التاريخ القديم؟ وما غرض رجل قضى جزءا من حياته في افريقية ان يطلع على تاريخ اليونان؟ هل يقارنهم بالإنجليز؟. بدت لي المقارنة بعيدة، ثم ترأى لي الامر جليا، نعم هو كذلك، الإسبرطيون كانوا اشبه بالعثمانيين في افريقية، أمة لا تقوم الا على قوة السلاح، والاتراك فقط من يمتلك كل شيء، أما العرب فلم يكونوا الا عمالا في مزارعهم. ربما كان الاتراك أنفسهم أقرب الى الدواريين، بينما كان العرب مثل الايونيين، ولكن الحقيقة التي اتفق الجميع حولها، أن تلك المدينة البائدة لم تكن الا ثكنة كبيرة”.
لقد
أحيا الفرنسيون المدينة البائدة وحولوا الجزائر إلى ثكنة عسكرية كبيرة، عاثوا فيها
بشكل كبير خرابا وتدميرا وقتلا لأكثر من قرن وثلاثين سنة (1830- 1962) حتى اشتهرت
الجزائر ببلد المليون شهيد، وسعوا إلى ضمها لبلادهم بشكل نهائي.
ماذا تقول لنا هذه الرواية؟
كما
رأينا نحن أمام رواية تاريخية من الدرجة الأولى ترصد أحوال الجزائر قبيل وأثناء
وبعيد احتلالها من فرنسا، وذلك من خلال شخصيات تعتبر ثانوية تاريخيا. الرواية
التاريخية تميل إلى رؤية التاريخ من خلال تلك الشخصيات العامة التي لم تكن في موقع
القرار، ذلك لأن التاريخ المكتوب يغطي بالفعل قصة ما فعله هؤلاء الصناع للقرار،
مما يضيق إلى حد ما مساحة الحرة أمام الروائي، كما ان طموح الروائي الأول هو رصد التاريخ
من زاوية الناس العادية والأهالي، أي الغائبون عن الرواية التاريخية بشكل عام،
فذلك يعطي طرحه الجدة ويقدم المختلف والمسكوت عنه بدرجة ما فيما حدث بالفعل. وفي
رويتنا تلك فإن الكاتب نجح في ذلك إلى حد كل كبير.
وهنا على مستوى المشهد والصورة نرى عدة مشاهد كاشفة وباعثة على التأمل
والوعي.
الجزائر مدينة خامدة
وخارج الحداثة
من
الأمور التي لفتت نظري هو إطلاق أهل الجزائر على عاصمة بلادهم لقب المحروسة، وهو
ما أستدعى في ذاكرتي على التو أن هذا اللقب نفسه كان يطلقه المصريون على عاصمتهم
القاهرة بشكل خاص وبلادهم بشكل عام. كلمة "المحروسة" معبأة بدلالات
دينية غيبية بالدرجة الأولى، بمعنى أن البلد محمية من قبل قوة فوق طبيعية وأن ذلك
ضمانة نهائية أن لا تقع تحت أي سيطرة خارجية أو احتلال أو حتى يحدث لها أي شر من
أي نوع، وهو كما نرى رهان ميتافيزيقي يتهاوى ويسقط على رقبته أمام العزو الأجنبي الغربي.
الغرب الذي أنجذ مشروع الحداثة بشكل كبير، مما حوله لقوة معرفية ومادية قادرة على
التمدد والغزو والاستيلاء وسحق كل من لم ينجزوا بل ولم يدخلوا في زمن الحداثة.
الرواية تكشف عن الجزائر المدينة الجميلة العامرة، لكنها تعيش في الأجواء
الدينية وبروح ومفاهيم العصور الوسطى، ربما تمتلك تلك الصورة سحر الماضي وما يحمله
من ألفة وود وحنين ولكنها تكشف أيضا عن الخروج من التاريخ والانحدار إلى القابلية
للاستعمار وموقع الفريسة.
تلك الصورة يرسمها ويرصدها الكاتب عبر مشاهد متعددة طول روايته، ولكن ربما
كان من أكثر تلك المشاهد تعبيرًا هو ما جاء على لسان كافيار في الرواية، وخاصةٍ
الجزء التالي:
«لم أستوعب كيف تتغير ضمائر أولئك
الأوروبيين، وكيف يتنكرون لجنسهم العريق، وخاصة الألمان، يجلس بجانبي أحدهم، يبدو
لي مثل طبيب، يحدثني عن المدينة، وعن الصحراء الشاسعة، والرمال الذهبية، والعرب
وكرمهم، كيف كانوا أقرب إلى شخوص الكتاب المقدس، ولا يعنيني كلامه إذ جزمت أن
طبيبا مثله سيكتشف بيسر أن المدينة التي فُتن بها لا تكاد تعثر بها على طبيب، أو
حتى عالم طبيعة، أو مهتما بالعلوم الأخرى. هم لا يحسنون سوى الأكل والشرب، ومضاجعة
نسائهم، من أجل مزيد من الأطفال يبعثرونهم حولهم، وتكمل متعتهم بمص غلايينهم،
واحتساء القهوة.. يمتعض الطبيب من كلامي، أو ربما استغرب من وجهة نظري، ولا أجرؤ
على السخرية منه، تعلّمك الحياة في إسبرطة الحذر من الكلمات التي تتفوّه بها، ولا
تلبث أن تصبح مثل المُور متلوّنا في آرائك بما يناسب حاجتك، رغم أن العرب كانوا
دائما مخادعين، ومراوغين يضمرون عكس ما يظهرون.»
ثم
إن هذه المدينة بالرغم من تدينها الظاهر فهي غارقة في الفساد والظلم القاتم الذي
يتضح لنا على طول الرواية، لكنه يتجسد بشكل كبير في شخصية دوجة، تلك الفتاة التي
تموت أمها ثم أخها، نتيجة للجهل والمرض، ثم يلحق بهم أباها كنتيجة للقهر
والعبودية، فتطحنها المحروسة بعد ذلك وتسوقها للعمل كبغي لصالح قواد متفوق في
سفالته وانحطاطه.
هذه
صورة وإن كانت خاصة بالجزائر فإنها تكشف حال العرب عموما في القرن التاسع عشر،
والفجوة الهائلة التي فصلتهم
عن الغرب الذي عبر نحو الحداثة.
تعكس وتكشف الرواية عن السياسة العدوانية التي
مارسها العثمانيون متخذين من الجزائر أحد قواعد تلك الممارسات وسياسات القرصنة.
ولهذا أضحت الجزائر هي الجحيم الذي أخاف أوربا لثلاثة قرون، كانوا يطلقون عليها
مدينة القراصنة، وصوروها بصورة مخيفة، صورة من القصص الخرافية التي أذهلت “ديبون”
حين زار الجزائر ووجد أماه مدينة مخالفة لتلك القصص التي كان يزرعوها في عقول
العامة من الاوروبيين، فقد راها مدينة جميلة الشكل، تتناقض مع كل الصور التي
رسموها في مخيلة الناس والجنود في أوربا.
لقد كان حصاد العنف والقرصنة العثمانية وبالاً على الجزائر، فقد كان التكئة
الرئيسية التي استند عليها الفرنسي لعبور المتوسط واجتياحها، خصوصا بعد تآكل فوائض
القوة التي كانت يمكن تعطي مساحة لتلك التصرفات من قبل، لكن العثماني ظل يعيش في
أوهام القوة والتسلط متجاهلا التدهور الذي ينحدر إليه، والتقدم والقوى المتراكمين
في الغرب.
سقوط الطبقة
المحتكرة والمتنفذة في اختبار الوطنية
مع أن أصحاب الرساميل والأعيان، الطبقة المتنفذة والمسيطرة والمحتكرة إلى أبعد الحدود على ثروات الوطن، هم أكثر المستفيدين من الأوضاع القائمة وتمتعوا وظلوا يتمتعون بامتيازات واسعة في بلدهم، إلا أنهم كانوا أول من سقطوا في اختبار الدفاع عن الوطن. فضلوا حفظ رؤوسهم، وامضاء معاهدات فارغة المضمون مع المحتل في سبيل الحفاظ على أوضاعهم وامتيازاتهم بالدرجة الأولى. أمّا شرفاء الروح، ولو مارسوا أقدم مهنة عرفها الكوكب الأزرق، فاندفعوا من أجل الوطن والإنسانية: "استغربت كيف لأولئك النّساء اللواتي يبعن أجسادهنّ كل يوم، أن يحملن هذا المقدار من الوفاء... تقبع الشريفات في بيوتهن، وتخرج البغايا للموت، ويفرّ الموسورون عند أول طلقة للمدافع".
بلوعة شديدة وحرقة روح وصف الراوي حيرة
الأطفال، في زمن مُنعت مناقشة الأمور العائلية والوطنية، إذ باع المتنفّذون
الإنسان والأرض لإرضاء أسيادهم الكبار: "ثم فجأة رأينا المتزوجين يساقون إلى
الميناء يلتفتون إلى زوجاتهم المغاربيات اللواتي خلفوهن في الجزائر، والأطفال
بينهم احتاروا أي جهة سيختارون".
فلم يهب للدفاع والقتال والتضحية من أجل البلد، إلا الجماهير التي عاشت
مسحوقة ومُستغلة في ربوعه.
العنصر اليهودي
قي
الرواية نجد تواطأ العنصر اليهودي، ممثلا في شخصية «ميمون»،
الذى أكل على كل الموائد، مع المحتل الفرنسي ومساعدته له على التمكن من رقبة
البلد، والذي عينه الفرنسيون رئيسا للمجلس المحلى.
وكالعادة فإن «ميمون» اليهودي لم يكن متضررا على الإطلاق من الوجود
العثماني، بل كان تاجر كبير ومتنفذ، بل واحد من حاشية الحكم العثماني والمقربين،
لكن مع ذلك فاليهودي يضع نفسه بالكامل في خدمة الفرنسي. نموذج «ميمون» يعكس
الخصوصية التي لازمت العنصر اليهودي بشكل كبير في أنه لم يكن يعتبر نفسه جزءا من
الشعب الذي يعيش بينه، ويفضل تصنيف نفسه على أنه أجنبي، ولا يهمه سوى مصلحته
الخاصة وما يستطيع أن يجنيه من مكاسب.
هذا السلوك اليهودي للأسف متكرر بشكل كبير، فالأغلبية من اليهود الذين
عاشوا في البلاد العربية كانوا يفضلون أن يحملوا جنسيات أجنبية حتى يتمتعوا
بالامتيازات خصوصا في حقبة الاستعمار، وأقل القليل منهم الذي ربط نفسه بالوطن الذي
يعيش فيه.
خبث الاستعمار والفكر
الاستراتيجي الغربي
الرواية تقول لنا كيف أن الغرب يخطط ويتصرف على المدى الاستراتيجي الطويل. فالاجتياح
الفرنسي للجزائر سبقه جهد استخباري ومعلوماتي واسع وعميق، لا يختص بما هو عسكري أو
حتى اقتصادي، بل يمتد ليشمل كل شيء في البلاد، حتى أصبحوا يعرفون عنها وعن طبائعها
وأحوالها وجغرافيتها وديموغرافية بما يفوق بمراحل عدة ما يعرفه حكام البلد وأهلها
نفسهم عن بلدهم بل وأنفسهم. وهذا لا يعكس فقط المدى الاستراتيجي الذي يوسم صناعة
القرار في الغرب الحديث، بل وأيضًا سيادة نموذج التفكير العلمي وجدوى وحصاد هذا
التفكير.
قبل أن يدخل المستعمر إلى الجزائر، نشر مخبريه في سحنة علماء أنثروبولوجيا، أطباء وقساوسة يتدثرون بزيّ العفاف والرحمة، حتى يحققوا مطامعهم الدفينة. وقد عكست الرواية ذلك في شخصية « كافيار» الذي أمضى أيامه في المحروسة يجمع البيانات ويرصد الظواهر ويرسم الخرائط لكل ما يتعلق بتلك الأرض وأهلها، حتى الحيوانات الموجودة والنباتات كانت فيما رصده وسجله.
عدمية المحاجّجة
بالخطاب الحقوقي
الرواية ترصد محاولات «ابن ميَّار» الدؤوبة والصادقة والمصممة على مخاطبة
سلطة الاحتلال بصيغة العهود والمواثيق وما حدث من انتهاك بل ونقض لها. وإن كان
خطبه لم يجد أي صدى لدى السلطة الحاكمة مباشرة، فإنه قدر أن خطابة عند السلطة
العليا في باريس وتوضيح الصورة أمامهم يفتح الطريق لخروج الاحتلال عن الطريقة كشف
ما يتخيل أنه غير معلوم من الحقائق والمناقشة على أرضية حجية الحقوق والحريات في
البلد الذي نادت ثورته بعالمية تلك الحقوق وقدسية تلك الحريات!!
لكن
خطاب «ابن ميَّار» وجهده كان قبض الرياح، فتواطأت اللجنة التي أرسلها المركز
الإمبراطوري مع المجموعة الحاكمة للبلد باسم الاحتلال. الرواية تكشف وتؤكد على
عدمية الخطاب الحقوقي كطريق للتجرر وانعدم جدوى تلك الوسيلة، فالتحرير هو بالأساس
كفاح مسلح ونضال سياسي يجيء في ذيله مخاطبة المحتل والتوجه إلية بالحجج القانونية.
نقد النص الروائي:
الديوان
الإسبرطي رواية تاريخية بديعة، وتقديري أنها تستحق بالفعل جائزة البوكر. الرواية
تعطي لقارئها صورة ناطقة غنية بالألوان والتفاصيل والمشاهد الكاشفة عن حال الجزائر
قبيل وبعيد الاحتلال الفرنسي، والأرجح عندي أن حال الجزائر في تلك الفترة كان مطابقا
إلى حد كبير لحال كل أقاليم العالم، فنكتشف كيف أصبحنا قابلين للاستعمار الغربي.
الإجابة على السؤال السابق هي في تقديري ليست فهم لما حدث بقدر ما هي سؤال
المستقبل وما يجب أن نفعل في قادم الأيام.
حبك المؤلف بناء شخصيات الرواية، بحيث نطلع على الحال الجزائري من وجهات
نظر مختلفة بل ومتعارضة ومتصادمة، مما أضفى غنى حقيقي للصورة وإمكانية اكتشافها من
زوايا متعددة وعيون مختلفة. ذلك الثراء في الرؤية التي يخرج بها قارئ الرواية، نال
منه في بعض الأحيان التكرار الذي ربما تورط فيه المؤلف لاستخدامه تقنية تعدد
الأصوات، فنجد أن نفس التفاصيل يتم إعادة سردها لحادث أو مشهد ما على لسان أكثر من
راوي، مما يبث شعور بالملل عند القارئ أحيانا، خصوصا أنها تعتبر رواية كبيرة
(حوالي 400 صفحة)، لكن ظني أنه حتى مع استخدام تلك التقنية الروائية البديعة كان
يستطيع المؤلف تجنب ذلك التكرار في أكثر من موضع.
كما أنني شعرت بغياب التصاعد الدرامي في الاحداث، فالرواية تعاني في تقديري
من عدم اكتمال ترابط احداثها وتصاعدها بحيث تشد القارئ لإكمالها وتثير ترقبه وشغفه
بالأحداث القادمة، وذلك أيضا يفقدها بعض من المتعة السردية، ويجعل قراءتها
واكمالها في حاجة إلى جهد بدرجة أو بأخرى. بالإضافة إلى استخدام الكاتب لعدد من المصطلحات
العسكرية المستخدمة في أيام العثمانيين والتي قد تكون مجهولة لشريحة كبيرةٍ من
القراء مثل «الكراغلة» و«اليولداش» و«الجولق» وغيرها من ألفاظ يصعب فهمها دون أن
يتم توضيح معانيهم في هامشِ مستقل، وهو ما نرى أنه كان ضروريًا حتى لا يقطع على
القارئ تركيزه في أحداث الرواية وتفاصيلها، لا سيما أن تلك المسميات يأتي ذكرها
أكثر من مرة.
ما
سبق من قراءة وفهم لنقاط يثيرها هذا العمل أو انتقادات مقدمة في الخاتمة، نابعة من
تجربة كاتب تلك السطور الشخصية مع الرواية، هي على هامش نص بالغ الثراء وغني بخبرة
عميقة ومؤثرة سيخرج بها بالتأكيد كل من يتناول تلك الرواية ويعيش أحداثها
وتفاصيلها.
